
العقلُ في اللغة مأخوذٌ من الفعل عَقَلَ، وهو الربطُ والشدُّ والمنع. يُقال: عقلتُ البعيرَ إذا ربطتُ رِجله بالحبل ليُمنَع من الانفلات، ويُقال: عَقَلَ الرجلُ نفسَه، أي منعها عن الهوى والزَّلل.
ولهذا سُمِّيَ العقلُ عقلاً، لأن وظيفته الأساسية منعُ النفس من الانقياد وراء ما يضيرها ويهلكها، كما يمنع العِقالُ البعيرَ من الجموح؛ فالإنسان إذا عقل الأمورَ ربطها بمعانيها ونتائجها، وإذا عقل نفسَه منعها من السقوط في الزلل. ولهذا قال العلماء: إنّ العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان حاكماً على الشهوة، مانعاً للنفس من اتِّباع الهوى.
إقرأ أيضاً:
فمجرّدُ الذكاء أو سرعةِ الفهم لا يُسمّى عقلاً في اللغة، بل هو سلطةٌ أخلاقيةٌ ومعرفيةٌ تعمل على منع الإنسان من اتِّباع الشهوات والأهواء والانحرافات، ومنحه القدرةَ على التمييز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، وتوجيهه نحو الصواب والحق.
وبهذا المعنى استُعمِل في أحاديث رسول الله والأئمة الأطهار (صلوات الله عليه وعليهم). فقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في جوابه عن سؤال: ما العقل؟ فقال: "ما عُبِدَ به الرَّحمنُ، واكْتُسِبَ به الجِنانُ".
وجاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "العَقْلُ حِفْظُ التَّجارِبِ". وليس المراد من ذلك أنّ العقل يساوي التجربة، بل يعني أنّه يستضيء بالتجارب ويستفيد منها، ويُحسِن النظر في العواقب.
فالعقل نورٌ يهدي الإنسان ويرشده، ويكبح جماح شهواته وغرائزه، ويكشف له مواضع الخطأ والزَّلل في نفسه وسلوكه؛ فإذا صدر منه خطأ استقال منه، ورجع عنه، وتاب إلى الحق، وإلى الله تعالى. وإذا صدر منه قصورٌ أو تقصيرٌ اعترف به وطلب الصفح والغفران. ولا يكون العاقل عنيداً يُصرّ على الخطأ ولا يستقيل منه.
ولقد شدّد رسول الله (ص) على هذا المبدأ حين قال: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطّائِينَ التَّوَّابُونَ". فالتوبة، في حقيقتها، استقالةٌ من الذنب والخطأ والتقصير، ورجوعٌ إلى ما يحكم به العقلُ من واجبٍ أخلاقيٍّ أو شرعيٍّ، وفيها ترميمٌ لما تهشّم من أخلاق الإنسان ودينه.
فالعاقل، بمقياس النبي وأهل بيته الأطهار (ع)، هو مَن يستبصر بخطئه قبل أن يُبصره الناس، ومن يملك بصيرةً تجعله يستقيل نفسه من التمادي في الزلل؛ فإدراكُ المرء خطأه، واعترافُه به، ورجوعُه عنه، وتصحيحُ مساره، دليلٌ على وفور عقلِه. فالقائد العاقلُ هو الذي يملك الشجاعةَ للاعتراف بخطئه، والاستقالةِ منه قبل أن يُقيله الواقع. والعالِمُ الباحثُ عن الحقيقة إذا اكتشف خطأه لا يقبل به ولا يُصِرّ عليه، بل يسارع إلى الرجوع عنه ويسلّم للحق ولو كان مع خصمه أو عدوّه. والمؤمن هو الذي يعتذر عن خطئه قبل أن يُطالَب بالاعتذار، ويلومُ نفسه قبل أن تتلقّى اللوم من الآخرين، والمؤمنُ الحق هو الذي يستقيل من ذنبه بمجرد وقوعه منه على غفلةٍ من عقله.
إنّ طلبَ الإقالة سلوكٌ راقٍ يصدر عن نفسٍ صادقةٍ مع ذاتها، وعن عقلٍ متحفّزٍ متوثّب لا يقبل الخطأ ولا يقرّ الانحراف، ولا يهادن الظلمَ ولو كان صادرًا منه، فضلاً عن أن يكون من غيره.
ومن هنا جاء في الحديث عن الإمام الكاظم (ع): "لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ في كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ عَمِلَ خَيْراً اسْتَزادَ اللهَ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّاً اسْتَغْفَرَ اللهَ وَتَابَ إِلَيْهِ".
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي