
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ مَلَكَ اسْتَأثَرَ".
تلك هي الحقيقة التي لا لَبْسَ فيها ولا يمكن إنكارها؛ فالسلوك البشري أكبر شاهدٍ عليها. إنّ الإنسان إذا امتلك قدرةً أو نفوذًا أو مالًا، فإنّ نفسه تميل بطبعها إلى الاحتكار والاختصاص دون غيره، إلا من عصمه الوعي والورع والتقوى. فالاستئثار نزعةٌ نفسيةٌ تظهر عندما تغيب الضوابط، ويتخطّى المرء حدودَ الله والعقل. وهذا ما عبّر عنه الله تعالى ببيانٍ صريحٍ بليغ، إذ قال: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴿6﴾ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴿العلق:7﴾.
إقرأ أيضاً:
إنّ استغناء الإنسان يدفعه إلى الطغيان، يحسب نفسه مستغنيًا عن ربه فيطغى ويعصي، ومستغنيًا عن الخلق فيظلمهم. والحقيقة أنّ الغنى المحض أو الاستغناء المطلق ليسا واقعًا يعيشه الإنسان، وإنما الخطأ في الرؤية؛ إذ يظن نفسه كذلك وليس به. يتوهّم أنه في غنى عن الله وفي غنى عن الناس، والحقيقة خلاف ذلك، فكيف يستغني عن الله من هو قائمٌ بالله؟ وكيف يستغني عن الله من كان أصلُ وجوده وبقاؤه محتاجَيْن إليه؟ وكيف يستغني عن الناس وهو غير قادرٍ على تأمين حاجاته المتنوعة بمفرده؟ فحتى لو كان ثريًّا، فالوقت لا يسمح له أن ينجز كل شيء بنفسه، ولا هو يمتلك كل القدرات والخبرات، مما يضطرّه إلى الناس.
إنّ الله تعالى يبتلي الإنسان بالثراء والغنى والقدرة والسلطة والنفوذ والعافية، كما يبتليه بالفقر والحاجة والعجز والضعف والمرض، ليكتشف الإنسانُ نفسَه، ويعرف ما هو فاعلٌ عند ثرائه وغناه وقدرته: هل يتواضع للآخرين، ويخدمهم، ويخفف عنهم، ويرحمهم، ويرأف بهم، أم يتنكّر لهم، ويستطيل عليهم، ويعاملهم بفوقية واستعلاء؟
فعندما يتحدّث الإمام أمير المؤمنين (ع)، فإنّه يُنَبِّه إلى ما قد يقع في بنية الحُكم من استئثار الحاكم بما ليس من حقه، مما يهدم عدالته ومروءته، من التعامل الأناني، وتهميش الفقراء والضعفاء، والاستحواذ على الثروات له ولأقربائه ومريديه، والتعامل مع الدولة كأنها ملكٌ خاص.
وقد نبّه إلى هذا في كتابه إلى مالك الأشتر النَّخعي حين ولّاه على مصر، فقال له: "وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ".
فالإمام (ع) يحذّره من أن يختصّ نفسه أو أهله أو خاصّته بشيء هو حقٌّ مشترك لجميع الناس، كالأموال العامة أو المناصب أو الامتيازات. فالحاكم ـ أو المسؤول ـ إذا امتاز على الناس فيما هو لهم، فقد خالف العدل، وفتح أبواب الفساد والاحتقان والظلم؛ وهو ما حذّر منه الإمام بشدّة.
ولا يخفى عليك، أيها القارئ الكريم، أن من أبحاث العصر أنّ الاستئثار السياسي بمعنى: تركيز السلطة، والتفرد بالقرار، واحتكار الثروةـ هو أحد أسباب الانحلال الاجتماعي والفساد الإداري.
ومن هنا يتّضح أنّ قول الإمام (ع): "مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ" ليس توجيهًا أخلاقيًّا للأفراد فحسب، بل هو أيضًا تشخيصٌ بنيويٌّ لعلاقة السلطة بالمجتمع، ومفصلٌ يميّز بين الحكم العادل والحكم الذي يميل إلى الاحتكار والأنانية.
نستنتج مما سبق ضرورةَ أن يحذر الإنسان من الاستئثار فيما يديره وما هو مسؤولٌ عنه، وأن يقوم بدوره أو وظيفته كأمينٍ على أمانته، يمارس مسؤوليته بشفافيةٍ، ويفتح مجال النقد والمساءلة، ويحيط نفسه بالمخلصين الناصحين، ويعزّز في نفسه ثقافة المشاركة والشورى والإيثار.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي