
التقوى شرطٌ ومقتضٍ للصلاح والإصلاح؛ تلك هي الحتمية التي تكشف عنها جوهرةُ الإمام أمير المؤمنين (ع)، سواء أكانت تقوى من الله تعالى ـ وهي الأهم والأعظم أثرًا ـ أم تقوى من العقوبة القانونية، ولو كانت قوانينَ وضعية، أم تقوى ذات خلفيةٍ أخلاقيةٍ بحتةٍ يأبى بها الإنسانُ من نفسه الفسادَ والإفساد.
إن هذه الجوهرة الكريمة: "مَنِ اتَّقَى أَصْلَحَ" تختصر مسيرة الإنسان بين الخوف والرجاء، وبين المعرفة والعمل، وتفتح لنا الباب واسعًا على معنى الإصلاح الحقيقي، الذي لا يبدأ من الخارج كما يتوهّم كثيرون، بل ينبع من داخل الإنسان، من اللحظة التي يوقن فيها المرء أنّ تهذيب النفس شرطٌ لكلّ إصلاحٍ في العالم.
التقوى في أصلها وقايةٌ يتّخذها الإنسان لنفسه من الشرّ أو الضرر، وسلوكٌ عمليٌّ لحماية النفس، كمن يجعل بينه وبين النار حاجزًا. وعندما أُطلقت على العلاقة بالله صار معناها: أن يجعل الإنسانُ بينه وبين غضب الله وقايةً بطاعته وامتثال أمره.
قال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن الكريم في مادة (وقى): "الوقاية: حفظ الشيء عمّا يؤذيه ويضرّه، والتقوى جعلُ النفس في وقايةٍ عمّا يُخاف، وذلك بترك ما يسخط الله وفعل ما يرضيه". ثمّ بيَّن مراتبها فقال: "التقوى في الحقيقة أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقايةً، وذلك بترك المحظورات، وقد تُستعمل في اجتناب الشبهات، بل وفي ترك المباحات الزائدة خشية الوقوع في المكروه".
وأضاف: "التقوى تكون على ثلاث مراتب: اجتناب الكفر والمعاصي، واجتناب الشبهات، واجتناب كلّ ما يشغل عن الله ولو كان مباحًا".
وعرَّف الإمام جعفر الصادق (ع) التقوى فقال: "أن لا يَفقِدَكَ اللَّهُ حَيثُ أمَرَكَ، ولا يَراكَ حَيثُ نَهاكَ".
وعرَّفها الإمام أمير المؤمنين (ع) فقال: "التَّقْوَى هِيَ الخَوْفُ مِنَ الجَلِيلِ، وَالعَمَلُ بِالتَّنْزِيلِ، وَالقَنَاعَةُ بِالقَلِيلِ، وَالاسْتِعْدَادُ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ"
فالتقوى إذًا: خوفٌ من الله، وتعظيمٌ لساحة قدسه، والتزامٌ بأوامره، والكونُ حيث يريد، واجتنابٌ لما ينهى عنه، بحيث يبقى التقيّ في حالٍ دائمةٍ من اليقظة والوعي، يجتنب معهما الغفلةَ والوقوعَ فيما يخالف أمر الله ونهيَه، ويزنُ كلَّ حركةٍ وخطوةٍ وموقفٍ بميزانٍ أخلاقيٍّ وشرعيٍّ.
وتتجلّى التقوى في صدق التقيّ مع الله ومع الناس، وإخلاص نيّته، وحفظ دينه وأخلاقه، واهتمامه بدنياه وآخرته، واجتنابه ما يضرّه وما يضرّ الناس.
وتنبع التقوى من المعرفة بالله؛ فكلما ازداد المرء معرفةً بعظمة الخالق ازداد ورعًا في حضرته، فالمعرفة تولّد الخشية، والخشية تثمر التقوى، والتقوى تجعل الإنسان صالحًا ومصلحًا. أمّا الجهل بالله فهو أصلُ كلّ فسادٍ وداعيةٌ إليه.
وتنبع ثانيًا من التهذيب المستمر للنفس وتزكيتها الدائمة؛ أمّا ترك النفس دون تهذيبٍ فينزع منها قابليةَ التقوى. ويُعدّ الزهد في الدنيا من منابع التقوى كذلك، بينما يؤدّي الانغماس في الدنيا ومتاعها إلى إضعاف روح المحاسبة، فيكون بابًا للفساد بلا شك.
وإذا كان الفساد اليوم يتجلّى في صورٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وأخلاقية، فإن علاجه لا يمكن أن يبدأ من القوانين وحدها، بل من إصلاح النفوس، وإيقاظ الضمائر، وتعميق الإيمان بعظمة الله وجلاله ورقابته على كل شيء. فحين يتّقي الموظفُ اللهَ في عمله ينتهي الفساد الإداري، وحين تتّقي الأسرةُ اللهَ في تربية أبنائها يزدهر المجتمع بالقيم، وحين يتّقي الإنسانُ اللهَ في فكره وقلمه تتطهّر الكلمة من التحريض والكذب.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي