
تشير هذه الجوهرة الكريمة إلى واحدة من الحقائق النفسية المهمة، وهي حقيقة تنطلق من النقص الداخلي في الإنسان؛ ذلك النقص الذي يدفعه إلى إسقاط عيوبه على الآخرين، فلا يرى منهم إلا ما يوافق قصوره، ليغطي بذلك عيوبه، ويتهرّب من مسؤولياته تجاه نفسه، فيلجأ إلى انتقادهم تعويضاً عن عجزه أو تقصيره.
والمقصود بالقصور هنا: قصور العزم والإرادة والهِمّة والوعي والقدرة، والقصور في أداء الوظائف والمهام، وكذلك القصور في التعلّم وفي تهذيب النفس وتزكيتها، وسائر صور القصور التي يقدر المرء على معالجتها وتغيير حاله بها من السَّيِّئ إلى الحَسَن، ومن العجز إلى القدرة، ومن الضعف إلى القوة والكمال.
فحين يقصّر الإنسان في أداء ما عليه من واجبات ـ سواء أكانت دينية، أم مهنية، أم إنسانية ـ تنشأ في داخله عقدة نقص تدفعه لا شعورياً إلى تسليط الضوء على أخطاء الناس ليخفّف من حكمهم عليه، وليخفّف أيضاً من حدّة تأنيب ضميره.
وقد أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى هذه الظاهرة الخطيرة، وهي ظاهرة قديمة متجددة؛ فكلّ من قصّر في إصلاح نفسه انشغل بعيوب غيره، لأنّ النفس تكره مواجهة حقيقتها، وتكره الإقرار بالضعف والعجز والتقصير، كما تكره أن تبدو كذلك أمام الآخرين؛ فتسارع إلى إسقاط عجزها عليهم، باحثةً بالمجهر عن أخطائهم وهفواتهم وتقصيرهم، بل حتى عن قصورهم. وهذا ما عبّر عنه النبي الأكرم (ص) بقوله: "يُبصِرُ أَحَدُكُمُ القَذى في عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنسَى الجِذْعَ في عَيْنِهِ" فمن عجز عن تهذيب نفسه لجأ إلى إدانة غيره تعويضاً عن فشله الداخلي.
وهذه الظاهرة نراها ماثلةً أمامنا في حياتنا اليومية في صور كثيرة: من زوجٍ مقصِّر في واجباته تجاه زوجه أو أسرته فيلقي باللائمة عليهم، وأخٍ فاشلٍ يتّهم أخاه بالفشل، وموظفٍ لا يُتقِن عمله فيوجّه سهام نقده إلى زملائه المتفانين، وشخصٍ سيّئ الخلق يبحث عن مساوئ الآخرين ليشير إليها تبريراً لسوء خُلُقه، وآخرَ مقصِّرٍ في واجباته الدينية أو معارفه الشرعية فيسارع إلى انتقاد المتدينين والعلماء، زاعماً النصيحة لهم وهو في الحقيقة يبرّر تقصيره.
وجميع هذه الحالات تصدر عن نفسٍ تائهةٍ بين العجز والادّعاء، ترفض أن ترى حقيقتها، فتبحث عن عيوب الآخرين. ولو أنّ صاحبها انصرف إلى تطوير ذاته، وعمل على تهذيب نفسه وتنمية فضائلها، لكان ذلك خيراً له وأنفع؛ غير أنّ كثيراً من الناس يقصّرون في حق أنفسهم بل يظلمونها، ثم يدفعهم ذلك إلى الانشغال بعيوب الآخرين والاعتياب عليهم.
فهؤلاء يُفرغون عيوبهم في وعاء الآخرين لعلّ ذلك يخفف عنهم وخز الضمير، فيعتمدون هذا الأسلوب آليةً دفاعيةً يعذّبون بها غيرهم ويخدعون بها أنفسهم. وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة بدقّة حين قال: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿14﴾ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿القيامة:15﴾ فهو يُبصر عيبه، ولكنه يغطيه بالمعاذير والمبرّرات، وأحياناً بالتهجّم على غيره.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي