ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّة...

مَنْ اسْتَنْجَدَ الصَّبْرَ أَنْجَدَهُ

21:47 - December 17, 2025
رمز الخبر: 3502860
بيروت ـ إکنا: إنّ الصبر ليس ضرباً من القهر للنفس، بل هو تهيئتها لتكون أقدر على إدراك ما حدث، ولماذا حدث، وكيف حدث، وتحمّل أثره، ثم توجيه طاقة النفس نحو اقتناص الفرص الملائمة والمبادرة إلى العمل في الوقت المناسب.

وروِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ اسْتَنْجَدَ الصَّبْرَ أَنْجَدَهُ".
 
في هذه الجوهرة الكريمة تتجلى رؤية الإمام أمير المؤمنين (ع) لطبيعة الإنسان، وفهمه لطاقاته الكامنة في مواجهة أزمات الحياة وتحدياتها وأعبائها، تلك الطبيعة التي يمكنها أن تتغلب على أعظم المصاعب والمصائب إذا ما تعاملت معها بالمعرفة والحكمة واستنجدت بالصبر، باعتباره قوة إسناد ونجدة، كمن يستنجد بحليف قوي موثوق حين يجد من نفسه ضعفًا في مواجهة التحديات أو الأعداء، كأن الصبر جيشًا عرمرمًا جاهزًا للنجدة والإغاثة.

فالصبر قارئي الكريم قوة كامنة في النفس، إذا ما استصرخها الإنسان في محنته، لبّت نداءه وكانت عوناً له، والاستنجاد بالصبر فعل إرادي، وخيار واعٍ يختاره المرء بإرادته ووعيه، كأن الصبر ينتظر من يناديه، فإذا طلب أحد أن ينجده لبّاه وأنجده، ومنحه قدرة رهيبة على الصمود والثبات، وطاقة خلّاقة على مواجهة التحديات وتخطي الصعوبات. 
 
وبهذا يتبين لنا أن الصبر ليس استسلامًا للواقع، ولا رضوخًا أمام التحديات، ولا خيارًا يختاره العاجز الضعيف الذي لا يملك شيئاً، والصبر ليس جمودًا وسُباتًا، بل قرار نابع من قراءة الواقع والتعامل معه برَوِيَّة وأناة، وانتظار الفرصة المُلائمة، فهو حركة نحو الهدف ولكنها حركة متأنِيَّة مستعدة أن تتحمّل المصاعب، أن تدفع الأثمان الضرورية بانتظار أن تتغير الأحوال وتتبدَّل الأوضاع. 
 
والصبر ليس ضربًا من القهر للنفس، بل هو تهيئتها لتكون أقدر على إدراك ما حدث، ولماذا حدث، وكيف حدث، وتحمّل أثره، ثم توجيه طاقة النفس نحو اقتناص الفرص الملائمة والمبادرة إلى العمل في الوقت المناسب، ولذا نجد الأحاديث الشريفة دائمًا ما تربط الصبر بالبصيرة، لأن الإنسان حين يصبر يرى أبعد مما يراه المُلِحُّ العَجول، ويتصرّف بحكمة وأناة، ويثبت أمام العواصف مهما عَتَت، إدراكاً منه أنها لن تدوم.
 
في الحياة، كثيرًا ما نجد أن الإنسان في مواجهة الأزمات والمصاعب والمصائب والإخفاقات والنكسات، مثل المرض، وفقد الأحبة، وضيق المعيشة، والإخفاق في تحقيق الأهداف، أو الإخفاق في مواجهة الأعداء، وسوى ذلك من المصاعب والتحديات، يظن أن الخلاص بيد القدر وحده، وأنه ليس في يده شيء ليفعله، ولا هو قادر على أن يغير الظروف، فيستسلم، ويخضع، ويخنع، ويغفل عن طاقاته الكامنة التي لو فعَّلها لأمكنه أن يغير الأحوال، فالتجربة الإنسانية عامة وتجاربنا الشخصية، تُثبت أن الخلاص يبدأ من داخلنا، من الهدوء الذي يمنحنا وضوحًا في الرؤية، وفهمًا عميقًا للواقع، وقدرة على التعامل الواعي معه، ومن الصبر الذي يمنحنا قدرة عظيمة على الصمود وانتظار جلاء الأمور وهدوء العاصفة.
 
الصبر يفتح للصابر نافذة على القوة الكامنة فيه، ويمنحه القدرة على عبور اللحظات التي يظن أنها فوق طاقته، "الصَّبرُ خَيرُ مَركَبٍ، ما رَزَقَ اللَّهُ عَبداً خَيراً لَهُ ولا أوسَعَ مِن الصَّبرِ" كما يقول رسول الله (ص)، وليس مجرَّد احتمال للشدائد والمصائب، ولذلك اعتبرت الروايات الشريفة أن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ودعانا الله تعالى إلى الاستنجاد بالصبر في طائفة عظيمة من آي القرآن الكريم، وأكَّد لنا فيها أنه سبحانه مع الصابرين.
 
فلنجعل -قارئي الكريم- الصبر رفيقًا دائمًا لنا، ولنُذكّر أنفسنا في ساعة الشّدَّة أن الصبر قرار وخيار، ولنبحث عن معنى ما نمرّ به كي يصبح صبرنا طريقًا نحو فهم أعمق له، ولنستعن بالصبر والصلاة فالقلب حين يتوجه إلى ربه يخفّ عنه الكثير مما ينوء به وحده. 

بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي
captcha