رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ الْوَفاءِ الْغَدْرُ".
الوفاء والغَدر ضِدَّان لا يلتقيان فإما وفاء تام وإما غدر، وبعض الوفاء يعني اللا وفاء، وقليل من الغدر يعني الغدر كله، ومن لا يفي بالقليل لا يفي بالكثير، ومن يغدر بهذا يغدر بذاك، فمن أراد أن يجنب وفاءه الآفات فعليه ألّا يغدر بأيِّ أحد ولو كان عدواً له.
إن الوفاء من أرقى الفضائل الأخلاقية وأسماها، ومن أنبل الصفات وأعلاها، فعليه جُبِلَت النفوس الأبية، وبه عاشت القلوب النقية المَرضية، وهو طبع العُظماء والنبلاء، وسجية الرسل والأنبياء، وشعار المخلصين والأولياء والأصفياء.
وهو قبل هؤلاء جميعاً صفة من صفاته الله تعالى، فالوَفِيُّ اسمٌ من أسمائه الحُسنى، قال سبحانه: "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ"﴿111/ التوبة﴾ وقد تجلّت صفته تعالى بما فَطرَ الإنسان عليه من حُبِّ الوفاء وكُرهِ الغدر.
الوفاء أخو الصِّدق والعدل، وذلك أن الوفاء صِدق اللسان والفعل معاً، والغَدر أخو الكذِب والجَور لأن الغدر كذب بهما، وفيه مع الكَذِب نقض العهد. والوفاء مِدحَةٌ ورِفعةٌ، والغدر لُؤْمٌ وَخِسَّة، والوفاء دليل المروءة والشهامة والنُّبل والفُتُوَّة والعِزَّة، والغَدر علامة الدناءة والحَقارة والوَضاعَة والذِّلَة والمَهانة، والوفيُّ يأمَنُه الناس، والغادر لا يأمنوه، ومن ائتمن غدّاراً أو اطمئن أليه فقد غدر بنفسه قبل يغدر به غيره.
والناس بين الوفاء والغدر درجات ودركات، فمنهم من يحفظ وِدَّ لحظة أو معروفاً بأقل خدمة، أو حتى مواساة بكلمة أو ببسمة فضلا عن الأعلى والأغلى من ذلك، ويفي لمن بادله الوفاء ولو أدّى ذلك إلى موته، ومنهم من لا يرعى وِدّاً ولو طال، ولا مَعروفاً ولو عظُمَ، ولا يفي بعهد ولا يصدق بوعد، بل يغدر ويفجر، ويطعن في الظهر، ومن اعتاد الوفاء وفَى لأقرب الناس وأبعدهم، ولوليه ولعَدوِّه، ومن اعتاد الغدر غدر بالقريب قبل البعيد، وبالصديق قبل العدو.
والوفاء حفظ للعهود، وصدق بالوعود، وأداء للأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والألفة والمحبة، وهو يلازم القيم الإنسانية السامية والفُضلى، والغَدر خروج عن الإنسانية، بل لعله خروج عن الحيوانية، وقد جعل الله الوفاء قواماً لصلاح الناس واستقامة علاقاتهم وانتظام حياتهم، فالناس مضطرّون إلى التعاون فيما بينهم، وعلاقاتهم قائمة على عهود ووعود، مِنْ عهودٍ زوجية، وعهود اجتماعية، وعهود تجارية، وعهود سياسية، فإن لم يفوا لبعضهم فكيف تنتظم علاقاتهم وتستقرّ حياتهم، إنهم إن غدروا ببعضهم تنافرت قلوبهم، وساءت علاقاتهم، ولم يستقر لهم حال، ولعلَّ ما نراه بين السياسيين والأحزاب في لبنان برهان على هذه الحقيقة، فالشعبوية والمصالح السياسية والارتباط بالخارج غالباً ما تؤدي إلى الخروج من الالتزامات، ونقض العهود بين الأطراف، والانقلاب على المواثيق، ولهذا لا يستقر لهذا البلد حال للأسف.
وإن من أهم العهود التي يجب الوفاء بها العهد مع الله، الذي أخذه علينا وواثقنا عليه عهداً تكوينياً وميثاقاً فطرياً حيث قال تعالى: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿60﴾ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"﴿61/ يس﴾.
وإن من أعظم الغدر بالنفس ألا يفي الإنسان بعهده مع الله تعالى، فإنه يظلم نفسه ويجلب إليها الضرر الدنيوي والأخروي ولا يضرُّ الله شيئاً، ولذلك كان الوفاء من أهم الصفات التي يتصف المؤمن بها، وقد ذكر الله ذلك في طائفة من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" ﴿8/ المؤمنون﴾ فمن لم يَفِ بعهده ووعده، ولم يحفظ أمانته ويرعها ففي إيمانه آفة، وفي أخلاقه آفات.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي