ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ الذُّكـاءِ الْمَكْـرُ".
الذَّكاءُ: سَعَة الفَهمُ، وتوَقُّد البصيرة، وحِدَّة القلب، يقال: ذَكَتِ النار تَذْكُو: اتَّقَدَت وأضاءت، وذُكَاء: اسم للشمس باعتبارها نجم متَّقِدُ بالضياء، وعُبِّر عن سرعة الإدراك وحدة الفهم بالذكاء كقولهم: فلان هو شعلة نار.
والذَّكاء نعمة بلا شك، بل نعمة كبرى، يهبها الله لمن يشاء، وهو توقُّد في الذهن دائم الإشعاع، يشعُّ على الأمور فتنكشف لصاحبها خفاياها، ويعرف بها طبائعها، وما تحتاج إليه، وما ينتج عنها، فيكون بذلك على بصيرة من أمره، حكيماً في نصرِفه، فتأتي أفعاله مطابقة للواقع.
والناس يتفاوتون في حظِّهم من الذَّكاء، فمنهم من يكون في غاية الذكاء، ومنهم من يكون حظه أقل، ولكن في مقدوره أن يزيد ذكاءه ويغذّي تلك النعمة الجليلة بالمزيد من التعلم والخبرة وحفظ التجارب، وقد تنقص بالإهمال والتضييع.
فطوبى بل ألف طوبى لمن أنعم الله عليه بالذكاء، من يفز به فعليه أن يشكر الله عليها ولن يوفيَه الشكر إلا إذا صرف ذكاءه فيما يرجع عليه أو على غيره بالفائدة في الدنيا وفي الآخرة. يصرفه في تطوير الحياة، والدعوة إلى الخير والمعروف، والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والدفاع عن المستضعفين، ومواجهة الطغاة والظالمين، وحلِّ المشاكل المستعصية التي يعاني منها مجتمعه وأمته، ويفتح للناس نوافذ على آفاق رحيبة من العلم والمعرفة، ويكشف عن مكنون الطبيعة من الأسرار والحقائق، والنُظُمِ والمعادلات.
لكني بأسف أقول: إن بعض الأذكياء لا ينفقون تلك النعمة في الخير بل في الشر، ينفقونها في الباطل والظلم والجَور والتَّعدّي والأذى، يستغلون ذكاءهم للإيقاع بالناس، والتسلُّط عليهم والاستيلاء على أموالهم والتَّنَكُّر لحقوقهم، وإضلالهم وإغوائهم، يحفرون لهم الحفائر ليوقعوهم بها، ويمكرون بهم لينالوا منهم.
يقول أمير المؤمنين (ع): "آفَةُ الذُّكـاءِ الْمَكْـرُ". نعم المَكر يُحيلُ الذكاء نِقمة بدل أن يكون نقمة، يحيله سبباً للتخريب والخراب بدل أن يكون سبباً للإعمار، المكر يجعل الذكاء أداة للتدمير والإفساد والإضلال والإغواء والإلهاء، الذكي الماكر يفعل كل قبيح، يصير ذكاؤه شيطاناً يفوق الأبالسة في أفعالهم.
ومعلوم أن المكر هو الاحتيالُ والخَدِيعَة، وصرف الغير عما يقصده بحيلة، والإيقاع به من حيث لا يشعر، وذلك ضربان: مَكْرٌ محمود، بأن يُتَحَرّى بذلك فعلٌ جميل، وعلى ذلك يوصف الله تعالى بأنه خير الماكرين، إذ لا يكون منه إلا الحَسَنُ الجميل، ولا يريد لعباده إلا الخير فيصرفهم عما يريدون من الشر دفعا للضرر عنهم. ومَكرٌ مَذموم: وهو أن يتحرَّى فعلا قبيحاً يفعله بغيره، وهذا ما يكون من الإنسان، فكلما قيل عن شخص إنه ماكِرٌ فيراد من ذلك إرادته السوء بالآخرين.
وبهذا يتضح أن المَكْر ليس من الذكاء في شيء، الذكاء نعمة والمكر نِقمة، الذكاء توقد الخير في الذهن، والمكر أفكار قاتلة مدمرة، المكر حيل شيطانية لا تراعي القيم الأخلاقية وصاحبها لا يخاف الله، وقد جاء في الروايات أن رجلاً سأل الإمام الصادق (ع) فقال: مَا الْعَقْلُ؟. قَالَ (ع): "مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ". قَالَ قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟. فَقَالَ (ع): "تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ ولَيْسَتْ بِالْعَقْلِ"
وإذاً، أن تكون ذكياً يعني أن تنفق ذكاءك في أبواب الخير والصلاح، أن تكون نَفّاعاً بذكائك، تنفع به الناس، وتنفع به الحياة، وأن تُسَخِّر ما وهَبَك الله فيما يُحِبُّه الله فإنه ولي النعمة، وسائلك عنها يوم الجزاء.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي