رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "آفَةُ الْمَعاشِ سُوءُ التَّدْبيرِ".
ولا يستقِرُّ عَيشٌ من دون تدبير، فالعَيْش: مَا تَقُومُ بِهِ الحَيَاةُ، مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَنَحْوِهِمَا من مختلف الحاجات التي يحتاج الإنسان إليها في حياته، فالحياة والتدبير أمران متلازمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فحيث تكون الحياة يجب أن يكون التدبير.
والحياة حدوثٌ وتجدُّدٌ ونُمُوٌّ وحركة ونشاط وحوائج شَتّى، ومواقف وقرارات، وأخذ وعطاء، وجميع ذلك يلزمه التدبير، والنظر في عواقبه، وتقويمه على ما يكون فيه صلاح عاقبته ليقع على الوجه الأصلح والأكمل، وحُسنُ القيام به، والتصرف فيه بحكمة.
وقد جاء في وصية رسول الله (ص) لابن مسعود أنه قاله له: "يا ابْنَ مَسْعود، إذا عَمِلتَ عَمَلاً فاعْمَلْ بِعِلمٍ وعَقْلٍ، وإيّاكَ وأنْ تَعْمَلَ عَمَلاً بِغَيرِ تَدَبُّرٍ وعِلمٍ، فإنّهُ جَلَّ جَلالُهُ يَقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً".
ورُوِيَ أنّ رجلاً قال للإمام الصادق (ع): بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نِصف الكَسب! فقال (ع): "لا، بَلْ هُوَ الكَسْبُ كلُّهُ، ومِنَ الدِّيْنِ التَّدْبيرُ في المَعيْشَةِ".
فالتدبير دليل على سلامة الدين، والحقُّ أن الدين ذاته تدبير، فعقيدته تدبير، لأنها تدبِّر نظرة الإنسان إلى وجودِه والعمل لغايته التي خُلِقَ لها، وشريعته تدبير لأنها تنظم علاقاته المختلفة، مع خالقه، ومع نفسه، ومع الناس، ومع الطبيعة.
والتدبير أحد أهم أفعال الله تعالى، فهو المُدبِّر لشؤون خلقه، ولولا تدبيره تعالى لما قام الكون ولا استوى على نظامه الدقيق المتقن، ولا استقرَّ له حال، قال تعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"﴿3/ يونس﴾.
وقال تعالى: "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿31﴾ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ"﴿32/ يونس﴾.
وقال تعالى: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"﴿5/ السجدة﴾. وهذا ما يُصطَلَحُ عليه بالتوحيد في الربوبية، أي أن الله هو الرَّبُّ لكل هذا الوجود، ولا ربَّ سواه، وهو الذي يدبِّر كل أمر من أموره.
والتدبير دليل على العقل، فحيث يكون العقل يلزم أن يكون التدبير، لأن العقل هو المتصرف في الإنسان والقوة الحاكمة على ما يكون منه من قرارات ومواقف وأفعال، وهو الذي يأمره وينهاه، وهو الذي يضبط إيقاع حركته، وهو الذي يَعقِلُ غرائزه، ويكبح جماح شهواته، وحُسُ التدبير دليل على وفور العقل وكماله، ولذا قال رسول الله (ص): "لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ".
وبهذا يتبين لنا أن حُسنَ التدبير ليس أمراً تَرَفيّاً إن شاء المَرء فعله وإن لم يشأ لم يفعله، إنما هو ضَرورة ماسَّة لحياته، بل الحق أنه ما من إنسان إلا وهو مُدَبِّر لحياته، فمنذ أن ينهض من نومه يبدأ تدبيره لذلك اليوم، فيما يأكل ويشرب ويلبس ويفعل وإلى أين يمضي، وأي عمل يريد أن ينجزه، وكيف ينجزه، فالكل مُدَبِّرٌ لكن الفرق بين إنسان وإنسان يكمن في حُسنِ التدبير وسوء التدبير، فواحد يُحسِنُ تدبير شؤونه، وآخر يُسيء تدبيرها.
فمن أحسن تدبير شؤونه استقامت حياته، واستقرَّ عيشه، ومن أساء التدبير تقلقلت حياته ولم يهنأ بعيشه، ولم يستقرَّ له حال على حال، وهذا معنى قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "آفَةُ الْمَعاشِ سُوءُ التَّدْبيرِ".
بقلم الكاتب والباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي