ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ثَمَرَةُ التَّجْرِبَةِ حُسْنُ الاخْتِبارِ".
والتجربة، ثم التجربة، ثم التجربة، إِنَّها المنجم الذي يكشف للإنسان عن مكنونه من الطاقات والإبداعات، والميزان الذي يزين به تطوره ونجاحه، والمعيار الذي على أساسه يختار لنفسه ما يليق بها، والأساس الذي عليه يختار أهدافه، وخُلّانه وأصدقاءه.
والتجربة هي التي تنقل الإنسان من طَوْرٍ إلى طَوْرِ، هي التي تُطَوِّرُ معارفه وعلومه، وهي التي تكشف له عن قوانين الخلق وقوانين الحياة، وهي التي تُعَرِّفه الصحيح من الخطأ، ففي "التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَفادٌ" كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع). ويقول: "الأُمُورُ بِالتَّجْرِبَةِ، وَالأَعْمالُ بالخُبْرَة" والتجربة تزيد في عقل المرء، يقول أمير المؤمنين (ع): "العَقْلُ غَريْزَةٌ، يَزيْدُ بِالعِلْمِ والتَّجارِب".
ولَمّا كانت التجربة تحتل هذه المكانة الراقية في وجود الإنسان، وجب عليه أن يدخل في التجارب أيّاً يكن نوعها، وأَلّا يهابَ من الدخول فيها، إلا أن تكون تجارب قاتلة فيكون إلقاء للنفس في التهلكة كأن يجرب الشخص أثر السُّمِّ عليه فيشرب جُرعة تقتله، أو تُجَرِّب دولة قُنبُلَة ذَرِّيَة في مدينة آهلة بالسكان. سوى ذلك يجب أن يُجَرِّب الإنسان ويُجَرِّب، فإن فهمه لعالم المادة لا يكون إلا بالتجارب المتكررة.
في جوهرته الكريمة: "ثَمَرَةُ التَّجْرِبَةِ حُسْنُ الاخْتِبارِ" يعلمنا أمير المؤمنين (ع) أن نختبر أنفسنا بالتجربة، فنحن قبلها لسنا نحن بعدها، قبل التجربة ندَّعي العلم، وبعد التجربة نصير عالمين، قبل التجربة ندَّعي الشجاعة وبعدها يتبيَّنُ لنا إن كنّا شُجعاناً أو جُبَناء، وهكذا في بقية الموارد، هذا على الصعيد الشخصي، أما على صعيد العلاقة بالآخرين فيجب أن نختبرهم بالتجربة، فالصَّديق لا نتخذه صديقاً إلا بعد أن نُجرِّبَه في صدقه ووفائه وإخلاصه والتزامه وحُسنِ سيرته، والموظَّف لا نعهد إليه بوظيفة إلا بعد أن نختبر قدراته ومؤهِّلاته الوظيفية والعملية، وأي شخص لا نمحضه الثقة إلا بعد أن ينجح في التجربة.
كذلك الشأن في تربيتنا لأبنائنا وإعدادهم لتحمُّل مسؤولياتهم في الحياة، لا ينبغي أن نكتفي بالتعليم بل يجب أن نعتمد التجربة أساساً ثانياً لبناء شخصيتهم وتنمية مهاراتهم، وهذا الأسلوب أجدى في التربية، وأغزر من حيث الآثار، ولذلك سيكون رائعاً جِداً أن ندخلهم في تجارب فكرية وعلمية وعملية، أن نعهد إليهم بحَلِّ مشكلة علمية، أو فكرية، أو عملية، أن نعهد إليهم بعمل يؤدونه ونرى كيف يؤدونه وبأي روحية يؤدونه، أن نُوكل إليهم إعلان موقف، أو إبلاغ رسالة، أو مجالسة ضيف، أو استقبال عميل للمؤسسة، أو اختيار موظَّف، وسيكون رائعاً كذلك أن ننخرط معهم في حوارات دائمة، وربما جدالات، كي نتعرف إلى مكنونهم الفكري والنفسي، وقد يحسُن أن نستفِزُّهم لنختبر صبرهم وأناتهم ورزانتهم، ويَحسُنُ أن نعطيهم بين الفينة والأخرى مبلغاً يسيراً من المال لننظر هل يتصرفون فيه برشد أم بسفَه، هل يستثمرونه فيما يفيد أم ينفقونه فيما لا فائدة فيه.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي