ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ثَمَرَةُ الشَّرَهِ التَّهَجُّمُ عَلى الْعُيُوبِ".
الشَّرَهُ: الإفراطُ في شهوات المأكل والمَشرب والجنس، وقد يتعدّى ذلك إلى النَّهم في الأمور المادية والمعنوية وهو: من النَزَعات الخَسيسَة والرَّذيلة، ويدلُّ على ضَعف النفس، وجَشَع الطبع، واستعباد الغرائز، وقد ذمته الشريعة الإسلامية وحذّرت منه أشدّ التحذير، واعتبرته من مساوئ الأخلاق، ومَذامِّ الأوصاف، وأنه يُردي صاحبَه ويَحُطُّ من مكانته، ويسيء إلى كرامته، ووصفته بأنه سَجِيَّة الأرجاس، ومَذلَّة، ويُشين النفس، ويُفسِدُ الدين والوَرَعَ والدُّنيا، ويُزري بالفُتُوَّة، ويُدخِلُ النارَ.
وأمعنت الروايات الشريفة في التحذير منه، واعتبرته أُسُّ كلِّ شَرٍّ ورَذيلَة، وجامع لكلِّ المَساوئ والعُيوب، وجاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "إيّاكُم ودَناءَةَ الشَّرَهِ والطَّمَعِ، فإنّهُ رَأسُ كُلِّ شَرٍّ، ومَزرَعَةُ الذُّلِّ، ومُهِينُ النفسِ، ومُتعِبُ الجَسَدِ". وقال (ع): "كَفى بِالشَّرَهِ هُلْكاً".
ولا تعجَب قارئي الكريم مِمّا جاء في الروايات من أوصاف الشره وآثاره فالتجربة الإنسانية الطويلة تؤكد ذلك، فلا حدَّ لمَساوئه ولا حصر، وما تشهده البشرية اليوم من أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية ومالية، وما يعصف بها من حروب ونِزاعات يُعتَبَرُ الشَّرَهُ أحد أهم أسبابه.
فمعظم البشرية أفراداً وجماعات ودولاً مُبتَلَون به، فلا حَدَّ لِنَهَمهم، ولا حدَّ لرغباتهم وشهواتهم، يريدون كل شيء، يريدونه لأنفسهم دون غيرهم، دُوَلٌ نَهِمة شَرِهَة، تريد أن تسيطر على ثروات العالم وتمنعها عن غيرها من شعوب الأرض، وتثير حروباً مدمرة لأجل ذلك، ومجتمعات شَرِهَة تطلق العِنان لشهواتها وغرائزها وتبيح لنفسها كل شيء وأيَّ شيء، وشركات كبرى تُروِّج لثقافة الاستهلاك والشَّراهة في الشِّراء، وبرلمانات تُقنِّن للشَّراهة الجنسية وتبيحها وتُلزم بها، وتعاقب من يعترض عليها.
لقد قيل قديماً: إن ابن آدم لا يملأ عينيه إلا التراب، أي لا يشبع من شيء، ولا يكتفي بقَدرٍ محدَّد، إنه نَهِم، وغرائزه نَهِمة، كلما استجاب لها في شيء طلبت شيئاً آخر، وكلما استلذت في شيء تطلبت شيئا جديداً لم تجربه من قبل.
ألا ترى قارئي الكريم كيف ينحدر المجتمع البشري جرّاء استجابته لشهواته، وذلك هو الشَّرَه بعينه، إنه ليتسافل إلى الدَّرْك الأسفل في قِيَمِه وعاداته، وما ذلك إلا لأنه يستجيب لنداء شهواته، ينحطُّ انحطاطاً مُرعباً ويظن نفسه متسامياً ونامياً ومتطوراً، لقد بات إنسان اليوم أخطر الكائنات على ظهر كوكب الأرض، هو وحده من يعيث فيها فساداً، وهو وحده من يتسبَّب بأزماتها وتغيير المُناخ فيها، وهو وحده من يُنشئ الحروب المدمرة التي تُنْهِك البشر وسائر المخلوقات، وهو وحده الذي يتخطى القوانين التي قَنَّنَها الله للطبيعة، فتراه شاذاً في كل شيء، وداعياً إلى الشذوذ ومُقَنِّناً له.
لقد تجاوز بعض البشر اليوم العلاقة الغريزية الطبيعية بين الرجل والمرأة، تجاوز الزنا والعياذ بالله بين ذكر وأنثى، إلى الترويج للشذوذ في هذا الصعيد، وإقامة العلاقة الجنسية الجماعية، وبين المحارم، وبين الإنسان والحيوان، حتى باتت الحيوانات نفسها تنْفُر من هذا الكائن الذي كَرَّمه الله فأبى ذلك التكريم، وفَضَّله الله على سواه فأبى ذلك التفضيل، وانحدَر بنفسه إلى مُمارسات شاذَّة لا نشاهدها في الحيوانات والحشرات.
لقد صار هذا المَخلوق المُكَرَّم مُتهَجِّماً على العيوب بسبب شَرَهِه ونَهَمه كما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "ثَمَرَةُ الشَّرَهِ التَّهَجُّمُ عَلى الْعُيُوبِ" إن إنسان اليوم لا يهجِم أي لا يسارع إلى التحَلِّي بالقيم السامية والأخلاق الحميدة، بل يهجم على العيوب، إينما وجد عَيباً أو أمراً قبيحاً هَجم عليه يفعله، ويدعو إليه، ويُرَوِّجُ له، ويصنع من الشواذ والمنحرفين (نُجوماً ومشاهير) مُبتَذَلَة تحاكي الغرائز وتستثيرها، وتلعب على العواطف والمشاعر والأهواء، وتُروِّج للشذوذ والابتذال والإسفاف.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي:
twitter