إنّ الحديث عن شخصيته المباركة يستلزم التمييز بين المقامات التي هي منحٌ إلهية ومراتب ربانية، وبين الصفات التي هي كمالات ذاتية فُطر عليها. وهذا التمييز يتيح لنا أن نقرأ الرسول الأعظم(ص) في نصاعته الكونية، كما أنبأت بها آيات الكتاب وروايات العترة الطاهرة.
أولًا: المقامات النبوية ـ منازل ربانية منحها الله لنبيه (ص):
المقام ليس وصفاً ذاتياً، بل هو عطاءٌ إلهي يرفعه إلى مرتبة مخصوصة، ليكون واسطة الفيض، وأمين الوحي، ولسان الحق في أرضه. ومن أبرز هذه المقامات:
١- مقام العبودية: العبودية هي تاج المقامات، بها صار النبي(ص) أكمل الخلق. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].
وعن الإمام الصادق (ع): «ما شُرِّف رسول الله بشيء أشرف من العبودية» (الكافي، ج2).
٢- مقام الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وفي حديث الإمام الباقر (ع): «هو رحمة للفاجر كما هو رحمة للبرّ» (بحار الأنوار، ج16).
إقرأ أيضاً:
٣- مقام الشهادة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45].
أي شاهدًا على الأمة ببلاغ الرسالة، كما فسّر الإمام علي (ع) (نهج البلاغة).
٤- المقام المحمود: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وهو شفاعة كبرى يشفع بها للأولين والآخرين، كما ورد عن الإمام الصادق (ع) (تفسير القمي).
٥- مقام الذكر: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا} [الطلاق: 10-11].
والذكر هنا ليس القرآن وحده، بل النبي(ص) نفسه بوصفه ذكرًا حيًّا متجسدًا، كما ورد في روايات أهل البيت(علیهم السلام).
هذه المقامات تعكس موقع النبي(ص) الكوني، فهي مراقي القرب، وجسور بين الأرض والسماء.
ثانياً: الصفات النبوية – كمالات ذاتية وجمال جوهري:
أما الصفات، فهي مكونات شخصيته وبهاء ذاته، التي بها كان مؤهلًا لتلقي تلك المقامات. ومن أوضحها:
١- الخلق العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
قال الإمام الحسن (ع): «كان رسول الله أحلم الناس، وأصدقهم لهجة، وأوفاهم ذمّة» (الكافي، ج8).
٢- التواضع:
روى الإمام الصادق (ع): «كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، ويخصف نعله بيده» (بحار الأنوار، ج16).
٣- الشجاعة:
قال أمير المؤمنين (ع): «إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه» (نهج البلاغة).
٤- الحياء:
وصفه الامام علي (ع): «كان أشد حياءً من العذراء في خدرها» (الكافي، ج2).
٥- الجمال الخَلقي والخُلقي:
ورد عن أمير المؤمنين (ع): «كأنّ عنقه إبريق فضة، وعرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريح عرقه أطيب من المسك» (أمالي الطوسي).
هذه الصفات هي إشراقة ذاته النبوية، فلا تُكتسب ولا تُمنح، بل هي صفة الجوهر المحمدي في أصل خلقته.
مسك الختام:
هنا يكتمل المشهد: المقام هو عطية الله لنبيه، والصفة هي كمال نابع من ذاته. اجتمع فيه العطاء والكمال، فكان إنسانًا كاملًا، جامعًا بين عبودية مطلقة وصفات مطهّرة.
إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) هو في مقاماته رحمةً للعالمين، وفي صفاته قدوةً للسالكين. وإذا كان القرآن قد أثنى عليه بالخلق العظيم، فإن روايات العترة الطاهرة فسّرت لنا سرّ ذلك العظم فهو نورٌ اصطفاه الله قبل الأكوان، ليكون صورة الإنسان الكامل، وحقيقة الرحمة الإلهية في الأرض.
وهكذا، يبقى قوله تعالى هو العنوان الجامع للمقامات والصفات معاً:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
بقلم الأستاذ في الحوزة العلمية آية الله السيد فاضل الموسوي الجابري