ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّةٌ...

العادات التي أسبغ الناس عليها طابع القداسة هي أخطر ما يواجهه المصلحون

11:12 - February 15, 2023
رمز الخبر: 3489973
بیروت ـ إکنا: إن أخطر ما واجهه ويواجهه المصلحون ماضياً وحاضراً العادات والسلوكيات التي تجذَّرت في المجتمع وأسبغ الناس عليها طابع القداسة، الأمر الذي يُصّعِّب عليهم الإقلاع عنها باعتبارها أمراً مُقَدَّساً.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "أَصْعَبُ السِّياساتِ تَغْييرُ الْعاداتِ".

سبق وكتبتُ حول العادة وذكرتُ أنَّ لها سَطوَةً على المُعتاد، فإنها تتملكه، وتُمسك بجميع حياته، وقد وصفها الإمام (ع) بأنها عدوٌ مُتَمَلِّك، وتزداد سطوتها عليه إذا اعتقد المَرءُ أنها أمر إيجابي، أو فعل ضروري له، ففي هذه الحالة يمارسها بقوة ويرى لنفسه ميزة على غيره ممن لا يمارسها، كذاك الذي اعتاد على الشذوذ الجنسي فهو يعتقد أن ما يفعله هو الحق، وأن سعادته تكمن في ذلك الشذوذ، فتراه يُنكِر على من لا يفعل فعله، ويَصِمه بالتخلُّف والرجعية، ويراه بائساً لا يعرف طريقا إلى السعادة والرُّقِيّ والتقدم.

مثل هذا الشخص يصعُب التعامل معه، ويصعُب إقناعه بسوء ما اعتاد عليه، ويصعب إقناعه بالإقلاع عن عادته، وفي النقاش معه يجب البَدءُ من المعايير التي يتم على أساسها التمييز بين ما يصحُّ وما لا يصحّ من العادات، وما يُفيد وما لا يُفيد، بل يجب أن تخوض معه نقاشاً في أصل وجود الإنسان، وغاية وجوده، وقيمة وجوده، ودوره في الحياة، وما يجب أن يتَّصِفَ به ليمارس دوره بفعالية وجدارة، وبكلمة ثانية: يجب أن تُعيد بناءَه من جديد، أي أن تبني إنسانا جديداً مختلفاً عما هو عليه الآن، تبنيه فكرياً وعقدياً، وتبنيه نفسياً وأخلاقياً.

كذلك يجب عليك النَّظر في المَناشئ التي نشأت منها تلك العادة، والظروف المحيطة التي ساعدت على الاعتياد عليها، فتعمل على معالجة تلك المناشئ، وتعمل على توفير بيئة صالحة تساعده على التغيير، وتعمل على تقوية إرادته، وتتابعه بالدعم والمساندة، وتقوٍّي ثقته بنفسه، وتدخل معه في نقاش هادئ، تمزج فيه الحزم باللّين، وتتصرف معه بحكمة ورَوِيَّة، وتتجنب معه العجلة، وتعطيه الوقت الكافي الذي يتمكن فيه من الإقلاع عن عادته، فإن لكل عادة درجة من الاستحكام والقُوَّة والتأثير، ولا يغيب عنك أن أفراد البشر متفاوتون في قوة الإرادة، وفي العزم والتصميم، وأن أمثال بشر الحافي الذي هَزَّت كيانَه جملةٌ واحدة فانتقل في لحظة من مُعاقر للخمر إلى تائب إلى الله تعالى، مثل بِشر قليل، ومثل الحُرِّ الرِّياحي الذي خَيَّر نفسه بين الجنة والنار، وقرر في لحظة أن يختار الجنة ولو كان الثمن أن يُقتَل، مثل الحُرِّ قليل كذلك.

ما تقدَّم كان ناظراً إلى العادات الفردية التي يعتاد الفرد عليها، وهي وإن كان تغييرها يحتاج إلى إرادة قوية، وبذل جُهد مكثَّف، ودعم نفسي متواصل، لكن تغييرها يبقى سهلاً بالقياس إلى العادات الجَماعية التي تملك من السطوة والقاهرية ما يجعل تغييرها شديد الصعوبة، وشديد الخطورة، نظرا للعواقب الخطيرة التي قد تترتب على الداعي إلى تغييرها واستبدالها بعادات أخرى إيجابية ومفيدة.

إن أخطر ما واجهه ويواجهه المصلحون ماضياً وحاضراً العادات والسلوكيات التي تجذَّرت في المجتمع وأسبغ الناس عليها طابع القداسة، الأمر الذي يُصّعِّب عليهم الإقلاع عنها باعتبارها أمراً مُقَدَّساً، ومعلوم لقارئي الكريم شِدَّة ارتباط الانسان بالمُقدَّس واستعداده للبقاء عليه، وخوفه من تغييره، بل خوفه من التفكير فيه وهل أنه مقدس أم لا، وهل أنه صحيح أو غير صحيح، وهل يُقِرُّه العقل ويقبله الدِّين أو يرفضاه، بل إنه ليذهب بعيداً في التمسُّك به حتى ولو اقتضى أن يُقتَلَ دونه.

وسيتعامل مع المُنكِرِ له كما يتعامل مع العدو، ولن يستمع إليه ولو كان معه شيوخ الملائكة من حَمَلَة العرش يشهدون له، والكلام في هذا الأمر يطول، وما يؤسَف له أن عادات وخُزَعبلات كثيرة استحكمت في مجتمعاتنا، والناس يتعاملون معها بالتقديس، بل يبالغون في تقديسها، ويُصرّون عليها كما لو أن حياتهم وآخرتهم متوقفتَين عليها.

وقد علمنا الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه الكريم كيف نتعامل مع العادات والقيَم الاجتماعية التي نروم تغييرها، ووضع لنا خارطة طريق تقوم على التمييز بين العادات التي لم تترسَّخ في النفوس، وبين تلك التي ترسَّخت فيها، فنبدأ بالأولى ونترك الأخرى لمرحلة تالية، لأن الإقلاع عن الأولى سيحفِّز المعتاد على تغيير الثانية، وعَلَّمنا أيضاً أن نتدَرَّج في تغيير الثانية فنجعل عملية التغيير على مراحل وننجزها مرحلة بعد أخرى.

بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي

أخبار ذات صلة
captcha