
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ثَبَاتُ الْدُّوَلِ بِإِقامَةِ الْعَدْلِ".
ليست الدُّوَل وحدها هي التي تثبت وتستقِرُّ وتدوم بالعدل، بل إن الكون ذاته لا يستقِرُّ ولا يدوم إلا بالعدل، ولذلك رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "بالعَدل قامَتْ السَّماواتُ والأرضُ" فما من صغير ولا كبير في الكون إلا ويقوم على العدل، وما من علاقة بين أجزائه إلا وتقوم على العدل، ولذلك نجده يسير بثَبات وانتظام، وكل أجزائه متظافرة متعاونة، ولا نجد فيه خَلَلاَ وفساداً.
كذلك الحياة البَشَريَّة يجب أن تقوم على العدل كي تنتظِمَ وتستَقِرَّ، وتأمَن ويرغُدَ عيشها، ولما كان البَشَرُ مُركَّبين من قوى مختلفة كالقُوَّة العاقلة، والقوة الغَضَبية، والقوة الشهوية، وكانت القوتان الأخيرتان تنزعان بهم إلى حُبِّ الذات والأنانية والسيطرة والاستحواذ، الأمر الذي يدفع بهم إلى الشَّر والتَّعدّي والظلم والتجاوز على الآخرين، وذلك يؤدّي إلى خَلَلٍ اجتماعي عظيم، ويدفع إلى نُشوء نِزاعات ونشوب حروب وصراعات، كان لا بُدَّ من وجود قوة تردع المعتدي، وتقتص للمظلوم حقه من ظالمه، وتحفظ استقرار المجتمع، وتسهر على تطبيق القانون، وتنظِّم العلاقات الاجتماعية، وتتمثل هذه القوة في الدَّولة بمختلف مؤسَّساتها المَعنية.
وكما أن الإنسان تعتريه أحوالٌ مختلفة وتطرأ عليه تغيَّرات متوقعة وغير متوقعة، من غِنًى وفقر، وقوة وضَعفٍ، وصحَّة ومرض، وكما أن للإنسان أجَلاً لا يعدوه، كذلك الدولة تعتريها نفس تلك الأحوال، لأنها بشرية كذلك، أي إن الذين يديرون الدولة بشر، وهم ذَووا نوازع وشهوات وأهواء وعواطف ومشاعر، وقد أكَّدَ الإمام أمير المؤمنين (ع) هذه الحقيقة بقوله: "لِكُلِ دَوْلَةٌ بُرْهَةٌ" أي أن لها مُدَّة تضعف عندها وتنهار إن لم يسارع أهلها إلى علاج نقاط الضَّعف والوَهَن فيها، فالدولة من نوع المُتغيرات التي لا دوام لها. وهنا يقول الإمام (ع): "الدَّوْلَةُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ".
ويُصَنِّف الإمام (ع) الدول إلى صنفين اثنين: الدولة العادلة، والدولة الظالمة، وقد يعبِّر عن الأولى بدولة الأكابر، ودولة الكرام، ويعبِّر عن الثانية بدولة اللِّئام، وأيَاً تكن الدولة فإنها تنعكس على المجتمع والأفراد، فإن كانت عادلة كريمة فهي غنيمة وسبب لاستقرار المجتمع وانتظامه، وفي ظِلِّها يتمتع الفرد بكرامته وكامل حقوقه، وإن كانت ظالمة يقودها اللِّئام فهي نِقمة على المُجتمع، وفي ظِلِّها يُذَلُّ الفرد ويُهانُ وتُنتَهَك كرامته، ويُظلم، يقول (ع): "دَوْلَةُ الأَكابِرِ مِنْ أَفْضَلِ المَغَانِمِ، دَوْلَةُ اللِّئامِ مَذَلَّةُ الكِرامِ". ويقول: "دُوَلُ الأَشْرارِ مِحَنُ الأخْيارِ".
ويذكر الإمام (ع) عِلَلَ سقوط الدول وانهيارها، فيدعو إلى الحَيلولة دون وصول الأشرار والطُّغاة والأوغاد والحَمقى وعديمي التجربة والمفسدين إلى سُدَّة الحُكم، فإنهم سبب رئيسي في سقوط الدول وانحلالها، يقول (ع): "دَولةُ الأوغادِ مَبنِيَّةٌ على الجَورِ والفَسادِ" كما ينبه من خطورة أن يتسلم قيادة الدولة السُّفَّلُ والأراذِل مِنَ الناس، فيقول: "زَوالُ الدُّوَلِ بِاصْطِناعِ السُّفَّلِ".
ويُبَيِّنُ (ع) الأسباب والعوامل الضرورية لِثَبات الدُّوَل واستقرارها ونُمُوِّها وتطوِّرها، ومن تلك الأسباب أن تتبنى الدولة عقيدة دينية صحيحة، وما ينبثق منها من منظومة قانونية كاملة قويمة، ومنظومة أخلاقية سامية، وأن تتوافق كل استراتيجياتها وأهدافها وقراراتها مع ذلك، وأن تعمل كل أجهزتها على ترويج وحماية تلك العقيدة، فيقول (ع): "صَيِّرِ الدِّينَ حِصنَ دَولَتِكَ، والشُّكرَ حِرزَ نِعمَتِكَ، فَكُلُّ دَولَةٍ يَحوطُها الدِّينُ لا تُغلَبُ، وكلُّ نِعمَةٍ يَحرُزُها الشُّكرُ لا تُسلَبُ".
ومن تلك الأسباب أن تقوم الدولة على قاعدة العدل، وأن تُشيع العدل في المجتمع، وأن تراعي العدل في كل شأن من شؤونها، حيث يقول (ع): "ثَبَاتُ الْدُّوَلِ بِإِقامَةِ الْعَدْلِ". فالعدل يبني الثقة بين المَحكوم والحاكم، ويُطَمئِنُ المُواطن إلى حقوقه ويحفظها له، ويحفظ كرامته وحُرِّيته، ويقضي على الظلم والفَساد وهما السببان الرئيسيان لهلاك المجتمعات وانحلال الدُّول.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي