ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "ثَلاثٌ يَهْدُدْنَ الْقِوى: فَقْدُ الْأَحِبَّةِ، وَالْفَقْرُ فِي الْغُرْبَةِ، وَدَوامُ الشِّدَّةِ".
وصدق أمير المؤمنين (ع) وهو الصادق المُصَدَّقُ ثلاثٌ يَهدُدن قوى المَرءِ ويُجهِدنه ويُثقِلنَ كاهله، ويجعلنه ضعيفاً خائر القوى، حائراً في أمره، هائماً على وجهه، ويجعلنَ حياته مُرَّة متعِبة مُنهكة.
أوَّلهُنَّ: فقد الأحبة، وما من أحد مِنّا إلا وقد وقع في هذه التجربة أو سيقع فيها، فالفقد واقع لا محالة، إذ الموت قَدَرنا جميعاً، بل قَدَر كل الخلق، فكل من خُلِقَ سيموت، لا ينجو من ذلك نبي ولا رسول ولا ولي، ولا مؤمن ولا كافر، ولا غني ولا فقير، ولا كبير ولا صغير، قال تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴿26﴾ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"﴿27/ الرحمن﴾ وحكى الله في كتابه الكريم حكاية الخلق وانتقالهم من طور إلى طور، ومن نشأة إلى نشأة إلى أن قال: "ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ"﴿15/ المؤمنون﴾.
وخاطب الله رسوله الأكرم (ص) فقال: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ"﴿30/ الزُّمُر﴾.
وجاء في وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) لولده الإمام الحسن المجتبى (ع): "وَاعْلَمْ يَا بُنيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآخِرِةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ، وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي، لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ يَفُوتُةُ طَالِبُهُ، وَلاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ".
فالمَوت واقع لا محالة، من يَعش يموت، ومن يطُلْ عمره يفقد الكثير من أحبته، ورغم يقين المرء بذلك وتوقُّعِه أن يفقد حبيباً في كل لحظة، لكنَّ الفَقد مؤلم، وخبر الوفاة مُفجِعٌ، وقد يُخرِجُ الإنسان عن طوره للوهلة الأولى.
إن فقد الأحبة يهدُّ القِوى، خصوصاً إذا كان المفقود ولداً فإنه يهدُّ والديه، ولا يمكنهما أن ينسياه ما عاشا في الحياة، الولد يسلو إذا فقد والديه، ولكن الوالدين يصاحبهما ألم الفَقد طول حياتهما.
الثانية: الفَقر في الغُربة: وهذا يَهُدُّ قوى المَرء، ويحيله ضعيفاً مستضعفاً، وحائراً يهيم على وجهه، يصارع قَدَره وحده، ويعاني فقره وحده، إلا أن يرحمه الله بأخٍ له أو صديق يُخَفِّفُ عنه وطأة الفقر، ويعينه على تجاوز أزمته، وقد شاهدت في أسفاري الكثير من الأشخاص الذين هدَّهم الفقر في الغربة، فاضطرهم إلى السؤال من الناس، وبعضهم جعلهم الفقر هامشيين في بلاد لا تحترم إلا الأقوياء الأثرياء، فاستسلموا لفقرهم وعَيْلَتهم، وبعضهم أوقعهم الفقر في براثن الشيطان.
لثالثة: دوام الشِّدَّة: أي دوام البلاء، وتواصل الأزمات، أزمة بعد أزمة، وبلاء بعد بلاء، فهذه تهدُّ قوى المَرء، وتجعله يَنوءُ بحملها، وإن لم يكن صاحب إرادة صُلبَة، ولم يكن راسخ الإيمان فقد تأخذه إلى خيارات مؤلمة.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي