ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "خَيْرُ الأُمُورِ النَّمَطُ الْأوْسَطُ، إِلَيْهِ يَرْجِعُ الْغالي وَبِه يَلْحَقُ التّالي".
واعلم قارئي الكريم أن أيّ أمر من الأمور له طرفان مذمومان، ووسط ممدوح ومطلوب، فالسخاء وسَط بين البخل والتبذير، الأول ممدوح ومطلوب والثانيان مذمومان، والشجاعة وسط بين الجُبنِ والتَّهَوُّر، والشجاعة مطلوبة وممدوحة، والثانيان مذمومان، وهكذا في سائر الأمور، وعلى الإنسان أن يتجنَّب المَذموم، عقيدة كان، أم صفة أخلاقية أم فعلا من الأفعال، ويفعل المَمدوح كذلك.
وقد جاء الإسلام الحنيف وسطياً في كل شيء، في عقيدته، وشريعته، وقِيَمِه، وأعلن الله تعالى في كتابه الكريم أن الأمة الإسلامية أمة وسَطٌ بين الأُمَمِ لا إفراط ولا غُلُوَّ في عقيدتها ولا تفريط، ولا إفراط يكون منها ولا تفريط، إذ قال سبحانه: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..."﴿143/ البقرة﴾.
ولو ألقينا نظرة فاحِصة على شريعة الإسلام لوجدناها بحق جارية في أحكامها على الطريق الوسَط والأعدل والأقوم، فلا تكليف فيها بما يفوق القدرة البشرية، ولا عُسْرَ، ولا حرج، قال تعالى: "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..."﴿9/ الإسراء﴾. وقال تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."﴿286/ البقرة﴾. وقال تعالى: "...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..."﴿185/ البقرة﴾*. وقال تعالى: *"...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ..."﴿78/ الحج﴾. وقال تعالى: "لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ..."﴿17/ الفتح﴾.
وتدعو الشريعة الإسلامية إلى التوسُّطِ والاقتصاد في الإنفاق، وتذُمُّ البُخل والتبذير والإسراف، قال تعالى: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا"﴿29/ الإسراء﴾. وحين مدح الله عباد الرحمان قال سبحانه: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا"﴿67/ الفرقان﴾.
وعلى هذا جرت الشريعة الإسلامية في العِبادة، فلم تقبل أن يترهَّبَ الإنسان، فينقطع عن الدنيا وواجباته تجاه نفسه وعياله ومجتمعه لحاجته إلى ذلك، كما لم تقبل أن ينقطع عن العبادة لحاجته الماسَّة إليها، وقد جاء في الحديث عن الإمام عَلِي بن موسى الرِّضا (ع) أنه قال: "إنَّ لِلقُلوبِ إقْبالاً وإدْباراً، ونَشَاطاً وفُتُوراً، فَإِذا أَقْبَلَتْ بَصُرَت وفَهِمَتْ، وَإِذا أَدْبَرَتْ كَلَّتْ وَمَلَّتْ، فَخُذُوْها عِنْدَ إِقْبَالِها وَنَشَاطِها، واترُكُوها عِنْدَ إِدْبارِها وَفُتُورِها".
ورُوِيَ: إنَّ رهطًا مِنَ الصَّحابَةِ ذَهَبوا إلى بُيوتِ النَّبِيِّ يَسْأَلونَ أَزْواجَهُ عَنْ عِبَادَتِهِ فَلَمَّا أُخْبِرُوا بها كأنَّهُم تَقَالُّوها أَيْ: اعْتَبَروها قَلِيلةً. ثُمَّ قالوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ؟ فقال أحدُهُم: أما أنا فأصومُ الدَّهرَ فلا أفطرُ. وقالَ الثَّاني: وأنا أَقومُ اللَّيلَ فَلا أَنامُ. وقالَ الثَّالثُ: وأَنا أَعتَزِلُ النِّساءَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ بيَّنَ لهم خَطَأَهم وعِوَجَ طريقِهِم. وقالَ لهم: "إنَّما أنا أعلمُكُم باللَّهِ، وأَخْشاكُم لَهُ، ولَكِنِّي أَقُومُ وأَنَامُ، وأَصُومُ وأفطِرُ، وأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي".
وهكذا إذاً هي الوسطية في كل شيء، ولا يكون المسلم مسلماً إلا إذا كان كذلك، فإذا أفرط، أو فَرَّط، أو كان منه غُلُوٌّ فعليه أن يراجع اعتقاده وأن يُعَدِّلَ سلوكه.
ولقد واجه رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع) ظاهرة الغُلُوِّ، وكان لهم موقف صريح منها، بل قاموا بحركة مضادة لها، واجتهدوا في محاربتها، فلَعَنوا الغُلاة، وتبَرَّؤوا منهم، وكشفوا زيف مقولاتهم، وبَيَّنوا للناس أن الغُلُوَّ كُفرٌ، وشِركٌ، وخروج عن عقيدة الدين، وحَذَّروهم منهم، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "إِيّاكُمْ وَالغُلُوّ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ الغُلُوُّ في الدِّيْنِ".
ورُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "بُنِيَ الكفرُ على أربَعِ دَعائمَ: الفِسقُ، والغُلوُّ، والشَّكُّ، والشُّبهَةُ".
ورُوِيَ عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: *"احْذَروا عَلى شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفسِدونَهُم، فَإِنَّ الغُلاةَ شَرُّ خَلقِ اللّهِ، يُصَغِّرونَ عَظَمَةَ اللّهَ، ويَدَّعونَ الرُّبوبِيَّةَ لِعِبادِ اللّهِ..."*. وعنه (ع) منبِّها من الاقتداء والأخذ والصلاة من الغالي حيث قال: "لا تُصَلِّ خَلفَ الغالي وإن كانَ يَقولُ بِقَولِكَ...".
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: