ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "خُذِ الْحِكْمَةَ مِمَّنْ أَتاكَ بِها، وَانْظُرَ إِلى ما قالَ وَلا تَنْظُرْ إِلى مَنْ قالَ".
أن يكون المرء حَكيماً يعني أن يكون للناس قِبلَة يُيَمِّمون وجوههم شطره طلباً لآرائه السديدة ونصائحه الرشيدة. وينهَلون من مَعينه معارف صافية، وقيَماً راقية، إذ يرون فيه شخصاً يعرف الحق ويعمل به، ويصيب في قوله وفعله، ولا يكون منه باطل ولا زلل ولا خطأ، وشخصاً خرج من نفسه الأمارة بالسوء إلى رحاب الممكن من الإنسانية. وقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مَن عُرِفَ بِالحِكمَةِ لَحَظَتهُ العُيونُ بِالوَقارِ وَالهَيبَةِ".
وقد عَرَّف العُلماء الحكمة بتعاريف كثيرة، فمن قائل: إنها ضَربٌ من العِلم يمنع من ركوب الخطأ. وقائل: إنها العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المُسَدَّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال. وقائل: إنها القصد والاعتدال، وإدراك العِلَلِ والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهدي المرء للصالح الصائب من الأقوال والأفعال. وقائل: إنها فعلُ ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي. وقائل: إنها مَلَكَة فطرية أو مُكتَسَبَة يمكن بها وضع الأمور في مواضعها أقوالاً وأفعالاً وأحكاما وِفقَ رَوِيَّةٍ ودراية.
ويرى المُفَسِّر الشهير العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (رض) أن الحكمة من الإحكام والإتقان، فهي نوع من الأمر المُحكَم الذي لا يوجَدُ فيه ثلمة ولا فتور، فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها علی سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة التي هي أساس التشريعات الدينيّة والأحكام الإلهيّة.
وقد قَسَّم العلماء الحِكمة إلى قسمين:
القِسم الأول: الحكمة النظرية: كالبحث في مسائل التوحيد والنبوة والمعاد وسائر المسائل النظرية التي لا تأثير لوجود الإنسان في وجودها موجوداً أم لم يكن، فإنّ وجودها محفوظ في محله، ولا يبلغ الإنسان الكمال إلاّ بمعرفته لها والتدقيق فيها، فهي إذن أصول لا تنتفي بانتفاء الإنسان، فالغاية من الحكمة النظرية هي العلم.
القسم الثاني: الحكمة العملية: وهي مسائل لا توجَد إلاّ بوجود الإنسان كتلك المتعلقة بالأخلاق، وتهذيب النفس وتربية الروح، وتدبير المنزل، وإدارة المجتمع ومثيلاتها، وبديهي أنّ وجود هذه المسائل مرتبط بوجود الإنسان، والغاية من الحكمة العملية هي العمل طبق ما يعلم، أو العمل كما ينبغي أن يعمل.
ما هو موقف المؤمن من الحكمة؟
على المؤمن أن يكون حكيماً بالحكمة النظرية أي أن يتكامل في معارفه ويدقق فيها، ويميز الصحيح من الخطأ والحق من الباطل، لتكون اعتقاداته ومعارفه صحيحة مئة بالمئة، وأن يكون حكيماً بالحكمة العملية لتكون أخلاقه وسائر شؤونه كما ينبغي أن تكون. هذا أولاً.
وأما ثانياً: يجب على المؤمن أن يبحث عن الحكمة ويطلبها كما يطلب الشيء الضائع منه، وأن يأخذها مِمَّن يأتيه بها كبيراً كان أم صغيراً، ولياً كان أم عدوّاً، فقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "الحِكمَةُ ضَالّةُ المؤمنِ، فاطْلُبوها ولَو عندَ المُشرِكِ تكونوا أحَقَّ بها وأهلَها" وفي نصٍّ آخر قال: "فخُذِ الحِكْمَةَ ولَو مِن أهلِ النِّفاقِ" وفي نَصٍّ ثالث قال: "خُذِ الحِكمَةَ أَنّى كانتْ؛ فإنَّ الحِكمَةَ تَكونُ في صَدْرِ المُنافِقِ فتَلَجْلَجُ في صَدرِهِ حتّى تَخْرُجَ، فتَسْكُنَ إلى صَواحِبِها في صَدرِ المؤمنِ"
وعليه فلا يُشغِل المؤمنُ قلبه فيمن قال الحكمة، بل يشغله في الحكمة نفسها، لأن إشغال القلب فيمن قالها قد يتسبب في إضاعتها.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: