ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "خُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ أَحْسَنَهُ فَإِنَّ النَّحْلَ يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ زَهْرٍ أَزْيَنَهُ فَتُولَدُ مِنْهُ جَوْهَرانِ نَفيسانِ: أَحَدُهُما فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ وَالآخَرُ يُسْتَضاءُ بِه".
ما أعظم بلاغة عَلِيٍّ عليه السلام، وما أسنى تعابيره، وما أجمل تشبيهه، وما أدق بلورته للجوهرة التي يريد أن يقدمها للناس، تعبيراً عن فكرة، أو نصيحة، أو رشاد يُرشد إليه، أو قيمة من القيم يوجه الأنظار إليها.
هو ذا يحدثنا عن العلم والمعرفة، والإنسان يحتاج إليهما في حياته وفي آخرته، فلا دنيا ولا آخرة إلا بالعلم والمعرفة، ولا ارتباط بالله تعالى إلا بالعلم والمَعرفة، ولا بناء لشخصيته إلا بالعلم والمعرفة، يتكامل له أخلاقيا إلا بالعلم والمعرفة، ولا يتسامى إنسانياً إلا بهما، ولا يبني حضارته الإنسانية المُثلى إلا بهما، ولا يفهم قوانين الوجود ولا يقدر على التعامل والتوافق والاستفادة منها إلا بهما، ولا يتطور ويتقدم إلا بهما.
العلم والمعرفة شرطان ضروريان لوجود الإنسان، وشرطان ضروريان لاستخلافه عن الله تعالى، فلولاهما ما استحق ذلك، وهذا ما جاء في الحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته والذي حكاه الله لنا في كتابه الكريم، فإن الملائكة الذي تساءلوا عن سِرِّ اختيار الله تعالى آدمَ لمقام الخلافة عنه في الأرض، جاءهم الجواب: بأن آدم يعلم ما لا يعلمون، أو لديه القدرة على التعلم والمعرفة. ونرى ذلك بوضوح في الآيات القرآنية الأولى التي نزلت على قلب النبي محمد (ص) وهي قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5/ العلق﴾*.
إن الحضارة الإنسانية الكاملة التي جاء الأنبياء -سيما خاتمهم محمد (ص)- لبنائها في الأرض شرطها الأساس معرفة الله ومعرفة الكون وما كَوَّن الله فيه من كائنات، وفهم حركته وقوانينه وظواهره وأسبابه وعلله، وربط المسيرة البشرية بالله الذي خلق فَسَوّى والذي قَدَّرَ فهدى.
ولذلك جعل الإسلام طلب العلم فريضة على كل مُسلم ومُسلمة كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وجعل طلب العلم عبادة. ولم يُحَرِّم أي باب من أبواب العلم إلا العلم الذي تنحصر الإفادة منه في الضلال والإضلال والحرام.
ومعلوم أن العلوم ليست سواء في الأهمية بل تتفاوت بتفاوت الحاجة إليها والغاية منها، فمنها ما يجيب على الأسئلة الوجودية للإنسان، وتتوقف عليه سعادة الإنسان في دنياه وآخرته، ويصونه من الضلال والانحراف والتيه والضياع، ويقَنِّن حركته في الحياة وينظم علاقاته المختلفة،
وهذا أشرف العلوم وأكثرها أهمية، وطلبه واجب بلا شك، ومنها ما يتوقف عليها أمر معاشه وتطوره ونُمُوِّه فرداً ومجتمعاً وطلب هذا العلم واجب كذلك، ومنها ما يُنَمِّي حِسَّ الجمال والفَنِّ لدى الإنسان وهذا علم مفيد أيضاً وطلبه لا بأس به، وقد يكون واجباً، وهكذا بقية العلوم التي قد تَقِلُّ أهميتها لقلة الإفادة منها، أو تزيد.
في جوهرته الكريمة يوجهنا أمير المؤمنين (ع) إلى ضرورة أن نطلب العلوم الأكثر أهمية، وأن نتخيَّر أحسنها وأكثرها فائدة لنا في دنيانا وآخرتنا، وأن نتمثَّل في ذلك (النَّحلة) تلك الحشرة الهادفة المبدعة المُنَظَّمة الدَّؤوبة الكادِحَة في عملها، التي تنتقي الأزهار المفيدة لها، فتوَلِّد مما تتناوله منها جوهران نفيسان: أولهما: العسل، وفي العسل غذاء وشفاء، والثاني: الشمع الذي كان يُستفاد منه للإنارة فيما مضى، وله فوائد أخرى يعرفها المتخصصون من أطباء وغيرهم.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: