
تكشف لنا هذه الجوهرة العلوية الكريمة عن معادلة من معادلات العدل الإلهي، وسُنَّة من سُنَن الجزاء الرباني، وسِرٍّ من أسرار التراحم الاجتماعي، ففي زحمة الحياة، حيث تنشغل النفوس بلقمة العيش، يمرّ في الهامش طفلٌ فقد السَّند، ويتيه وجه صغير بين الوجوه، يبحث عن حنانٍ لا يُشترى، وعن دفءٍ لا يُعَوَّض.
اليتيم شرعاً: هو الذي فقد والده، باعتباره الكفيل والمعيل، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فاليتم رمز الضَّعف الإنساني، وحاجة الضعيف الذي لا يقوى على تأمين حاجاته، والدفاع عن نفسه، وتدبير أموره إلى سند يسنده، ومدبِّر رحيم يدبِّر أموره، هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى المجتمع الذي يعيش اليتيم في كنفه، فاليُتم يكشف عن جوهر أفراده، يوقفهم أمام مرآة أنفسهم، يسألونها: هل نحن رحماء فيما بيننا، هل نحتضن من لا حِضن له، ونعين من لا معين له، وننهض إلى واجبنا الإنساني والديني والأخلاقي في رعاية من لا راعي له؟ أم تستبد بنا الأنانية، وتأخذنا همومنا الشخصية، أو راحتنا بعيداً عن ذلك؟
لقد أولى الإسلام عناية خاصة بهذه الشريحة من المجتمع، فدعا إلى الاحسان إليها، ساواها بذلك مع بقية الشرائح، فقال تعالى: ...لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ...﴿البقرة: 83﴾.
ودعا إلى الاهتمام بهم، والعناية في تربيتهم وإصلاحهم، ومخالطتهم، والشراكة العملية معهم، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ...﴿البقرة: 220﴾.
ودعا إلى القسط معهم وحفظ حقوقهم جميعاً وعدم التفريط بشيء منها، قال تعالى: ... وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ...﴿النساء: 127﴾.
ودعا إلى إكرام اليتيم، وتوفير المأوى والمسكن اللائق به، وتعليمه، وتأديبه، وخدمته، ونهى عن التعامل معه بخشونة وغِلظة، ودَعِّه، وقَهره، وعن أكل ماله ظلماً، وسوى ذلك من التعامل السلبي الخبيث، وقد دَلَّ على هذا وذاك طائفة من آي القرآن الكريم لا مجال لذكرها جميعاً، حذراً من الإطالة على القارئ الكريم.
إن الاهتمام باليتيم له بعدان:
بعد فردي: يتجلّى في احتضان من لا حاضن له، وكفالة من لا كافل له، ومساندة من لا سند له، وهذا من أوجب الواجبات الإنسانية والدينية والأخلاقية، ولا يقتصر الأثر على اليتيم، بل يشمل الكافل والراعي له، إذ كل شخص منا عُرضة لأن يموت في أي لحظة، ويخلِّف أيتاماً يحتاجون إلى رعاية وعناية، فإذا قام هو بهذا الواجب، وحثَّ الآخرين على عليه لم يَخَفْ على ذريته إن أصيبوا باليُتم، وهذا ما نبَّه إليه الله تعالى بقوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿النساء: 9﴾.
وبعد اجتماعي: يتجلّى في تماسك المجتمع واستقراره وأمنه، لأن المجتمع الذي لا يحتضن اليتيم، ولا يتكفل الفقير، ولا يساعد المحتاج يفتقر حتماً إلى الأمن والاستقرار.
وها هو الإمام أمير المؤمنين (ع) يربط بين رعاية اليتيم وبين الأمن الاجتماعي، ليس لليتيم فحسب، بل لأبناء الراعي نفسه، فيقول: "مَنْ رعَى الْأَيْتامَ رُوعِيَ فِي بَنيهِ" حيث يكشف عن سنَّة من سنن الله تعالى في الجزاء، من يسدّ فراغ الأب في حياة يتيم، يحفظ الله أبناءه من فراغ مشابه، ومن يحتضن يتيماً يحتضن الناس أيتامه، إذ حين يتكاثر رعاة الأيتام في المجتمع، لا يبقى فيه قلب متحجّر قاسٍ، ولا يد قابضة عن العطاء، فتنتشر ثقافة التراحم، والتكافل، والتعاون، والشعور بالغير، فمن يزرع الرحمة في بيت غاب عنه الأب، يزرع الله حياته بالخير، وينير قلبه بنور منه، ويحفظ أبناءه وذريته.
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي