ایکنا

IQNA

جواهر عَلَويَّةٌ...

الذِّكرُ الجَميلُ أَحَدُ الحَياتَينِ

16:50 - November 22, 2022
رمز الخبر: 3488695
هناك حياة أخرى ليست مادية ولا بدَنية، هي حياتنا المعنوية، هي ما نُخَلِّفه وراءَنا مِمّا ينفع الناس والحياة بشكل عام، هي ذلك الذكر الجميل والأثر الجميل والسُّنَّة الحسَنَة التي نَسُنّها ويعمل بها غيرنا، هي تلك الأفكار الإيجابية التي تنقدح في أذهاننا في لحظة من الزمن فنتركها لتفيد سوانا من الناس.

ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "الذِّكرُ الجَميلُ أَحَدُ الحَياتَينِ"

حياتان لكل واحد منا، واحدة مادية بدنية، وهي هذه الحياة التي نعيشها بأبداننا، ونكون حاضرين فيها بين الناس، نشاركهم فيها ونتواصل معهم، ونفعل ما يفعله سوانا من الأحياء من البشر، لكن هذه الحياة لا تدوم مهما طالت، فقدَرنا الانتقال عنها إلى عالَم آخر، إنها مجرَّد محطة على طريق، نتوقف فيها مدة من الزمن، فإذا جاء أجلنا لم نستأخر فيها ساعة بل دقيقة، لأن قرار الارتحال عنها ليس بيدنا، ولا توقيته كذلك، فما خُلِقنا هاهنا إلا لنرتحل إلى الدار الآخرة حيث الاستقرار الدائم.

وهناك حياة أخرى ليست مادية ولا بدَنية، هي حياتنا المعنوية، هي ما نُخَلِّفه وراءَنا مِمّا ينفع الناس والحياة بشكل عام، هي ذلك الذكر الجميل والأثر الجميل والسُّنَّة الحسَنَة التي نَسُنّها ويعمل بها غيرنا، هي تلك الأفكار الإيجابية التي تنقدح في أذهاننا في لحظة من الزمن فنتركها لتفيد سوانا من الناس ممن يعاصروننا أو يأتون من بعدنا، هي ذلك الكتاب الذي نؤلِّفه، أو طالب العلم الذي نُعلِّمه ونربيه، والشجرة التي نزرعها والأرض التي نصلحها، والمشروع الذي نؤسسه، وهي أولا وآخراً ذلك التعامل الأخلاقي مع الناس، الحُبَّ الذي نمحضه لهم، والصدق في التعامل معهم، والإحساس بمشاعرهم، والسعي في قضاء حوائجهم، كل ذلك وسواه يُبقي الإنسان حَياً وإن انتقل عن الدنيا بدنياً، يبقيه حاضراً في الناس وإن كانوا لا يرونه ولا يتحادثون معه.

وهذه الحياة كما ترى قارئي الكريم هي صفات ومَلَكات وأفعال ومواقف وسيرة نختارها لأنفسنا، كما أنها لا أجَلَ لها، فهي مُمْتَدَّة دائمة، ألا ترى أن عظماء البشرية من أنبياء ورُسُلٍ وأولياء وعلماء ومؤلفين وفلاسفة وعباقرة ومخترعين ومبدعين قد غيَّبهم الأجل، وطواهم الموت، ولازالت مآثرُهم وآثارُهم ومفاخِرُهم تبعَث في المجالس طِيبًا وأرَجًا، يحمل الناس على عمل الخير، وفعل الجميل والاقتداء الحسَن.

فهؤلاء لم تمت إلا أبدانهم، أما فكرهم وإنجازاتهم وسُننهم وأعمالهم الصالحة فلم تزل موجودة في الناس، وهم ما يزالون أحياء فيهم يُفيدونهم ويوجهون حركتهم في الحياة. بل إن بعض المصلحين يزداد حضورهم بعد موت أبدانهم، حيث يدرك الناس أهمية أفكارهم وآرائهم وضخامة ما قدموا لهم.

إن الله تعالى حدَّثنا عن أولئك الذي يُؤثرون حياة الناس على حياتهم فيتقدمون إلى ساحات الوغى يدافعون عن مبادئهم وقيمهم وأعراضهم وأوطانهم إلى أن يُقتَلوا على أيدي أعدائهم، فهؤلاء أحياء أبداً، أحياء في برزخهم، وأحياء بمبادئهم وقيمهم، يقول سبحانه: "وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ"﴿154/ البقرة﴾ إنهم قُتِلوا في ظاهر الأمر، لكن في الحقيقة لا زالوا أحياء، إن سِمَة حياتهم البدنية  الانقطاع والخمود بعد حركة ويقظة، أما سِمَة حياتهم المعنوية فهي النُّمُوُّ والفاعلية والامتداد والاستمرار، فهم ما يزالون عنصراً فاعلاً ودافعاً ومؤثراً في توجيه حياة الأحياء، فضلا عن حياتهم في برزحهم كما دلَّت على ذلك آيات أخرى من القرآن الكريم، وتلك حياة لا نعلم كنهها لأنه فوق مستوى إدراكنا البشري، إلا أن نتعرَّفَ إليها من طريق الوَحي الذي لا ينطق عن الهوى. ومن ثم لا يُغَسَّلون ولا يُكَفَّنون كما يُغَسَّلُ الموتى ويُكَفَّنونَ، إن لم يُدْرَكوا أحياء، بل يُدفَنون في ثيابهم التي قُتِلوا فيها، والحكمة في ذلك أن الغُسلَ تطهير للجسد المَيِّت وهم أطهار بما فيهم من حياة، وثيابهم في الحياة هي ثيابهم في القبر لأنهم لا زالوا أحياء في برزخهم. 

بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية "السيد بلال وهبي"

أخبار ذات صلة
captcha