ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "إِذا مَلَكَ الْأَراذِلُ هَلَك الْأَفاضِلُ".
هما اثنان لا ثالث لهما في الحكم وقيادة المجتمع، والمجتمع مرهون حاضره ومستقبله بالرضا وإعانة واحد منهما، فإما أن يحكمه الأفاضل والمراد بهم أهل العلم والحكمة والتدبير، وأهل الإيمان والتُّقى، مِمّن يخافون الله في عباده وفي بلاده، أو يحكمه الأراذل الجاهلون الذين لا يتقنون شيئاً من العلم والتجربة، والذين لا دين لهم ولا أخلاق ممن لا يرعون في أحد من الناس إلّاً ولا ذِمَّةً.
إذا حكم الأفاضل تقدَّم المجتمع وتطور ونَما وقوي واقتدر، وانبسط فيه العدل والقسط وأَمِنَ الناس على حياتهم وحريتهم واختيارهم، واطمئنوا في حاضرهم ومستقبلهم، لأن الأفاضل يراعون الله في الناس، فلا يتعدون حدوده فيهم، ولا يقصِّرون عن واجب تجاههم، ولا يكون منهم ظلم ولا طغيان، وهُمْ قِيَميّون في ممارستهم الحكم والسلطة، ومعنى ذلك أن جميع سلوكياتهم محكومة لقيَم أخلاقية سامية، فهم أوفياء، وأمناء، وصادقون، ومخلصون، ويهدفون من قيادتهم المجتمع أن يطوروه في جميع أبعاده، وينَمُّون في أفراده جانب الخير والصلاح، ولا يتوسَّلون لتحقيق أهدافهم بوسائل دنيئة، ولا بأساليب منحطة سافلة.
أما لو حكم الأراذل فلك أن تتوقع منهم أي شيء، فبدل أن يرتقوا بالمجتمع ينحدروا به إلى دركات الرذيلة والفاحشة، وبدل أن يُنَمّوا جوانب الخير في الناس، فإنهم يطلقون في أنفسهم سُعار الشهوات والغرائز، وبدل أن يبسطوا العدل يبسطوا الظلم، ويمارسون الطغيان، والمصلحة الذاتية لهم هي التي تدفعهم لاتخاذ القرارات التي توفِّر لهم ما يطمحون إليه ولو كان على حساب الناس، وقد يذهبون بعيداً في البطش والظلم، وتقييد الحريات، والتجاوز على الناس، فلا يأمن الأفراد، ولا يستقر للمجتمع حال.
إنهم إذا حكموا أعدموا فرص الخير والصلاح، وأشاعوا المُنكرات، وحفَّزوا الناس على ارتكابها، يلهونهم بها استحماقا لهم، ليسهل عليهم قيادهم وأخذهم بالاتجاه الذي يريدون دون مراعاة لحقوقهم وكرامتهم، ولا مراعاة لأمر الله فيهم، إذ ينظرون إليهم باحتقار، ولا يرونهم إلا أتباعاً لهم، وأدوات لمشاريعهم الشخصية.
إن تجارب الحكم الكثيرة التي مَرَّت ولا زالت تمُرّ على مجتمعاتنا الإسلامية والعربية والدولية شاهد صادق على ما تقدم، فالمجتمعات التي حكمها ويحكمها الأفاضل مجتمعات متطورة، نامية، مستقرة، هادفة، طموحة، ذات هِمَّةٍ عالية، تطمح لتقديم نموذج حضاري راقٍ يستند إلى قيم إنسانية سامية، ويعمل لتحقيقها في واقع الناس، ولا يكتفي ببناء دنيا الناس بل يطمح لبناء آخرتهم التي إليها معادهم.
أما المجتمعات التي حكمها ويحكمها الأراذل فهي مجتمعات خاوية، فارغة، تعشعش فيها الأزمات السياسية والاقتصادية، وإن وُفِّق هؤلاء لتجاوز الأزمات آنفة الذكر فإنهم يعانون أزمات أشد خطورة، تتصل بوجودهم، حيث الأزمات النفسية والاجتماعية وتفكك الأسرة، وطغيان الأنانية المتوحشَّة التي ستدمر كل شيء، إنها مجتمعات وإن تقدمت في البعد العلمي والتكنولوجي ولكنها تتقهقر في البعد الأهم وهو البعد الإنساني، إذ تعيش توحشاً في غرائزها المتفلتة، ونَهَماً في شهواتها، والتي أصبحت هي الأساس لكل حركة تتحركها، حتى وإن حصل ذلك على حساب القيم الإنسانية، بل إنها تجعل الشيء أو الأمر ذا قيمة إذا كان يستجيب لأهوائها وشهواتها، فكل ما يرضي الشهوة ويستجيب للغريزة فهو ذو قيمة، وكل ما يخالفها أو يحد منها فلا قيمة له.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي