ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "إِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ، وَدارُ الْمُقامِ، وَجَنَّةٌ وَنارٌ، صارَ أَوْلِياءُ اللّهِ إِلى الآخِرَةَ بِالصَّبْرِ، وَإِلى الْأَمَلِ بِالْعَمَلِ، جاوَرُوا اللّهَ في دارِه مُلُوكا خالِدينَ".
أمس نشرتُ مقالة عن تعامل الدنيا مع أهلها والمقبلين عليها، وقد نهلت فيما كتبت من معين الإمام أمير المؤمنين (ع)، وبَيَّنتُ أن الدنيا لا تصدُق مع أحد وإن صدق معها، ولا تفي لأحد وإن وّفَّى لها، ولا تعطي أحداً كل ما يريد وإن أعطاها كل وجوده، وأنها متحولة بأهلها من حال إلى حال، حتى تُسلمهم إلى الموت الذي ينقلهم إلى عالم أرقى وأسمى وأنقى، عالم الآخرة.
والآخرة هي دار القرار، قال تعالى خالق الدنيا وخالق الآخرة: "إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ"﴿39/ غافر﴾. الدنيا مَتاعٌ، والمَتاع هو الانتفاع الذي ينقطع وقته ولا يدوم، فالدنيا يستمتع بها أهلها أياماً قليلة ثم تنقطع وتزول، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام والخلود، الدنيا منقرضة منقضية، والآخرة باقية دائمة، والدائم خير من المنقضي، والباقي خير من الزائل.
إن وصف الآخرة بأنها دار قرار يفيد بأنها نهاية رحلة الإنسان، تلك الرحلة التي يبدؤها الإنسان منتقلا من صُلب إلى صُلب، ومن رَحِمٍ إلى رَحِمٍ، حتى يستقر في الرحم الأخير، رحم أمه التي أنجبته، ثم يغادر تلك النشأة ويولد في نشأة الدنيا، ثم ينتقل عنها بالموت إلى عالم البرزخ، ثم ينتقل عنه بالموت أيضا إلى الآخرة فيستقرَّ فيها ولا ينتقل عنها إلى نشأة أخرى، إِنَّ فَهْمَ هذه الحقيقة وهي من أوضح وأجلى وأهم حقائق الوجود الإنسان يدعو الإنسان إلى الاهتمام بدار البقاء، والتعامل مع دار الفناء على أنه علم منقضٍ زائل، فلا يركن إليه، ولا يطمئن له، ولا يبني استراتيجيته فيه على أساس أنه باقٍ فيه بل على أساس أنه مرتحل عنه.
والآخرة دار المُقام، قال تعالى: "الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ"﴿35/ فاطر﴾. الآخرة دارُ إقامة كريمة طيِّبة، يُكرَم فيها المؤمن الطائع، ويُبَجَّل، دار لا تحَوُّلَ عنها ولا انتقال، والبقاء فيها ممتدُّ مُتَّصل بالأبد والخلود، وليس فيها نَصَبٌ، ولا مَلَلُ، ولا كَلَلٌ، ولا إعياءٌ، ولا تعَبٌ مادي، ولا تعبٌ روحيٌّ، بل نعيم متصل متواصل، وكرامة أبدية لا حدَّ لها.
والآخرة أيضاً جَنَّةٌ وَنارٌ، جَنَّة لمن آمن، ونار لمن كفر وجحد، جنة لمن أطاع واتقى، ونار لمن عصى وتجرَّأَ واعتدى، والجنة والنَّار ليستا إلا تجَسُّدٌ للأعمال التي عُمِلَت في الدنيا، فالعامل في الدنيا هو الذي يبني جنته بأعماله، أو يُسَجِّرُ ناره بأعماله، فطوبى لمن يلتفت إلى هذه الحقيقة وهو لا يزال في الدنيا فيبني بأعماله الصالحة جنته المرجوَّة في الآخرة، وتَعْساً لمن يُسَجِّر ناره هناك بأعماله وانحرافاته هنا.
وما يؤكد ما سبق قول الإمام أمير المؤمنين (ع): "صارَ أَوْلِياءُ اللّهِ إِلى الآخِرَةَ بِالصَّبْرِ، وَإِلى الْأَمَلِ بِالْعَمَلِ" إن أولياء الله في الدنيا وأولياؤه في الآخرة المُنَعَّمين في جنان عالية قطوفها دانية إنما صاروا كذلك بالصبر، وساروا إلى ذلك بالصبر، صبروا على ما يكرهون من مكاره الدنيا ومتاعبها ومشاقها وتكاليفها، وصبروا على طاعة الله وعبادته والعمل الصالح لوجهه الكريم، وكانوا يُؤَمِّلون رحمته وعفوه ولطفه ومحبته وقرنوا أمالهم وتطلعاتهم بالعمل والسعي والكدح.
وها هم قد "جاوَرُوا اللّهَ في دارِه مُلُوكا خالِدينَ" وما أجمل هذه المجاورة وما أكرمها، جاوروا الله، جاوروه في الدنيا وجاوروه في الآخرة، جاوروه في الدنيا فحماهم ورعاهم وأيدهم وسددَّهم وأَمَدَّهم بمزيد من لطفه ورحمته وفضله، وجاوروه في الآخرة فأقامهم في مقعد صِدقٍ عنده، "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"﴿74/ الزُّمُر﴾.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي