ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "تَدارَكْ في آخِرِ عُمْرِكَ ما أَضَعْتَهُ في أَوَّلِه تَسْعَدْ بِمُنْقَلَبِكَ".
ها أنت قارئي الكريم قد بلغت ما بلغت من عمرك (أطال الله عمرك) وقد كان منك ما كان، من أعمال صالحة، أو أعمالٍ طالحة، وأسأل الرحمن الرحيم أن تكون كلها صالحة، ولعلَّك أدَّيتَ كلَّ واجباتك، أو أدَّيت بعضها وفاتك بعض آخر منها، واجتنبت ما حرَّم الله عليك دفعاً للضَّرر عنك، أو اجتنب بعضاً منها ولم تجتنب بعضها الآخر.
والمَرءُ يا أخي يُضَيِّع الكثير في مقتبل عمره، إلا من عصمه الله وسَدَّدَه، إِذْ لديه قابلية التضييع خصوصاً إذا كان في رَيعان الشباب ونشوة الإقبال على الدنيا، ولم يكن له خِلٌّ وَفِيٌّ أمين، وصديق ناصح مُرشد، يرشِدُه إلى الخير، ويهديه إلى فعل الصواب، ويحرص على دينه وإيمانه والتزامه، ويدعوه إلى الهدى والصلاح.
ففي هذه الحالة قد يكون منه تقصير، وقد تَبْدُر منه أخطاء وزَلّات، لكنه مع تقدمه في العمر، يزداد فهمه للحياة، ويزيد إدراكه لما يجب وما لا يجب، وما ينبغي وما لا ينبغي له، وما يليق وما لا يليق به، ويزيد إدراكه لأهمية العمر الذي يخسره سريعاً، وأن ما بقي منه أقل بكثير مما انقضى، وضرورة استثماره بالإنجازات والباقيات الصالحات.
ويدرك من جهة أخرى أن بقاءه في الدنيا غير دائم، ولا يدري متى يُنادى به للارتحال عنها إلى دار الآخرة، حيث الحياة الحقيقية، وحيث البقاء والخلود، ويدرك أن سعادته وشقاءه هناك ليسا إلا ثمرة لعمله في الدنيا، وللحال التي كان عليها فيها، فيدعوه ذلك إلى تدارك ما فاته، وإصلاح ما أفسده.
ثم إن الإمام (ع) يتوجَّه بقوله هذا: "تَدارَكْ في آخِرِ عُمْرِكَ ما أَضَعْتَهُ في أَوَّلِه تَسْعَدْ بِمُنْقَلَبِكَ" إلى الشخص الذي يستسلم لفكرة أن ما ضاع لا يمكن تداركه، وأن ما كان من أخطاء لا يمكن إصلاحه، وما كان من ذنوب ومعاصي قد أمسك بتلابيبه ولا يمكنه الانفكاك منه، فيغلق بهذا اللون من التفكير باب التوبة والإصلاح، ويستسلم لما كان توَهُّما منه أن الله تعالى لا يقبل توبته، وهذا اللون من التفكير ليس وهماً فحسب، ولا خطأ فادحاً وحسب، إنما هو تفكير مُدمِّر، واعتقاد قاتل، يحول بين المرء وبين التغيير والإصلاح، والتدارك والتعويض، ويبقيه أسير التضييع والخسران، وأداة بيد الشيطان الذي لا يدعوه إلى مزيد من الجناية على نفسه والظلم لها.
إن الإمام أمير المؤمنين (ع) يُبطل ذلك التفكير، ويدعو المرء إلى الاستفادة القصوى مِمّا بقي له من عمر في الحياة الدنيا، فيستثمره الاستثمار الأمثل، ومن أهم ما يجب أن يحرص عليه تدارُك ما هو مسؤول عنه من حقوق العباد وحقوق الله تبارك وتعالى.
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي