رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ أَشْفَقَ عَلى نَفْسِه لَمْ يَظْلِمْ غَيرَهُ".
ومن يكن حريصاً على نفسه بتقديرها واحترامها وصيانتها عن كل قبيح من ظلم، وكذب، ونفاق، وجشع، وأنانية، ومذلة، ومهانة، فهو جدير بألّا يظلم غيره، تلك هي المعادلة التي تحملها هذه الجوهرة العلوية الكريمة، والتي تكشف لنا عن مِزية أخلاقية كريمة تنبع من النفس وتفيض على الآخرين احتراماً وتقديراً وحفظاً وعدلاً، فيكون الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ﴿الإسراء: 84﴾ أي كُلٌ يعمل انطلاقاً من مضمونه العقدي والفكري والأخلاقي، فمن كان مضمونه صالحاً، فأعماله وسلوكياته تتوافق مع مضمونه، ومن كان مضمونه طالحاً فاسداً فأعماله وسلوكياته تنسجم مع مضمونه الفاسد، من يعدل مع نفسه يعدل مع الآخرين، ومن يجنبها الظلم يتجنب ظلم الآخرين، وبهذا تسبق العدالة الذاتية العدالة الاجتماعية. والرحمة الذاتية الرحمة بالآخرين.
الإشفاق على النفس، هو إحساس يقظ بالمسؤولية تجاه النفس، ومراقبة دقيقة ومستمرة لها، وحرص دائم على أن تظل طاهرة نقية بريئة من العيوب الأخلاقية، وصيانة دائمة لها من كل ما ينال من شرافتها وكرامتها، فمن يُشفق على نفسه بهذا المعنى، يرى أن ظلم الآخرين خيانة لها هي، لأنه يعلم أن كل ظلم يُرتكب، قبل أن يُوجَّه إلى الآخر، يسيء إليها، ويشوِه صورتها، وينال من كرامتها.
إقرأ أيضاً:
الحق قارئي الكريم أن الظلم يبدأ من النفس، فلولا أن تكون النفس ظالمة لما ظلمت، ولولا أن تكون النفس يسهل عليها العدوان لما اعتدت، ولولا أن تكون النفس قابلة للخيانة لما خانت، الظلم يبدأ حين يموت ضمير الإنسان، وتموت إنسانيته، فمن لم يجنِّب نفسه الظلم وهي أحب الأنفس إليه فمن المؤكد أنه لن يتجنبه مع الآخرين.
إن إكرام الإنسان لنفسه وحرصه على سلامتها وصفائها، وإدراكه حاجتها إلى السلامة والطمأنينة يدعوه إلى أن يكون عادلاً، نزيهاً، رحيماً بالآخرين، لأن الآخرين امتداد له، الآخرون جزء منه، ما يصيبهم يصيبه، وما يعنيهم يعنيه، وما يسعدهم يُسعده، وما يُحزنهم يحزنه، فإن هو ظلمهم فإنه يظلم نفسه، وإن هو اعتدى عليهم فعلى نفسه يقع عدوانه.
إن نظرتنا للآخرين، وتعاملنا معهم، ينبع من علاقتنا بأنفسنا، فالذات المحترَمة تفيض بالاحترام لذاتها ولغيرها، والنفس الأبية تأبى القبيح لذاتها ولغيرها، والنفس الشريفة لا يكون منها ما يلوِّث شرفها، والإنسان الذي يكون رقيق القلب، مرهف المشاعر، إنساني التفكير لا يعامل الناس بقسوة وغلظة.
عندما يشفق الإنسان على نفسه يتسامى بها عن كل قبيح من ظلم وعدوان وكذب وخيانة، فيصبح هو منبعاً للخير، والحب، والجمال، والرأفة، والرحمة، الإشفاق على النفس يولّد إحساساً عالياً بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، ويمنح الإنسان بوصلة أخلاقية يتعامل مع الآخرين على هديها ولا يحيد عنها، فلا يكون منه ظلم، ولا جور، ولا تعسُّف، ولا إساءة لنفسه ولغيره، ولعله إلى هذا يشير الإمام علِيُّ بن الحسين زين العبدين (ع) بقوله: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ".
بقلم الباحث اللبناني في الشؤون الدينية السيد بلال وهبي