ایکنا

IQNA

القرآن الكريم وأطروحة التعارف البشري

15:11 - March 24, 2025
رمز الخبر: 3499507
بيروت ـ إکنا: إن أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية اليوم هو ترك العنان لبعض المدارس الإسلامية لتغذية الغلو والتطرف الديني تحت عناوين الكفر والإيمان.

وإن أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية اليوم هو ترك العنان لبعض المدارس الإسلامية لتغذية الغلو والتطرف الديني تحت عناوين الكفر والإيمان،وقد تعدى الأمر ذلك،ليكون القرآن الکریم نفسه عرضةً للتأويل والتفسير وفقًا لرؤى قاصرة عن الإحاطة بما يؤسس له القرآن في أهم جانب معرفي،ألا وهو مشروعية التنوع في خلق الله تعالى ومرادته في التكوين والتشريع،وذلك على قاعدة أنه ما  من شيء في عالم الوجود إلا وقد أُذن به تكوينًا بما في ذلك الخلق البشري واختلاف الأمم وتنوعها؛وهذا ما نرى فيه تأسيسًا لفهم واقع التنوع البشري لجهة ما هو عليه من إيمان وكفر واختلاف في المنازع والعقائد،كما قال تعالى:"ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ولا يزالون مختلفين".

لقد بيّن القرآن في كثير من آياته حقيقة التنوع في خلق الله تعالى،تكويناً وتشريعاً،فحيث ينظر الإنسان يلحظ التدبير المتقن والقضاء المبرم في عظمة من الخلق، وسر من السبح والتسبيح ،"صنع الله الذي أتقن كل شيئ..".ولا شك في أن التشريع جاء منسجماً مع هذا التنوع،إذ لم يكن هناك شريعة واحدة تطبع حياة الإنسان،بل تكامل التكوين والتشريع ليشكلا معاً منظومة حق يهتدي بها الإنسان الى ربه،وهذه هي حكمة الله في خلقه،كما قال تعالى:"يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه."فالتنوع في الخلق والوجود،ومن ثم في التشريع لم يكن صدفةً،وإنما كان لغاية أن تتكامل العوالم،بحيث يطلق كل موجود ومخلوق في خط هداه،كما قال تعالى:"ربنا الذي أعطى كل شيئ خلقه ثم هدى".

وهكذا،فإنه من الحقائق الكبرى في عالم الوجود أن الإنسان جاء وفق منظومة هذا الخلق، ليكون له هذا التنوع بلحاظ وحدة الهدف الإلهي من الخلق،كما قال تعالى:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم."،فعالم الإنسان مثله مثل سائر ما خلق الله يكدح في تنوعه لينتهي به المطاف تكاملاً حقيقياً في مسار كدح يحقق له مقام العبودية ،فلا تستغرقه التنوعات ،ولا تحد به التشريعات عن أن يكون له حق الوجود في حضرة القدس والملكوت..

فالتعارف هو أساس الكدح الى الله تعالى ،وبمقدار ما يتقي الإنسان ربه في علمه وعمله،بمقدار ما يكون لديه من التحول الديني والمعرفي الهادف ،على اعتبار أنه من معاني التقوى في الآية المباركة تجاوز الإنسان ذات نفسه ،ليكون له تفاعله مع كل ما يحيط به؛وإلا استحال التعارف ،وتصارم الوجود الإنساني،ووفق هذا المعنى للتقوى يخرج الإنسان عن كونه مجرد إنسان منعوت بصفة ،أو دين،ليكون تعارفه هادفًا ومؤديًا لما حمله من أمانة، وانتمى إليه من دين ،سواء في علاقات الإنسان مع نفسه فيما يلتزم به من دين ورؤية،أو في علاقاته مع الآخرين على النحو الذي يجعل منه إنسانًا متسقاً مع عالمه الخاص ومنسجماً مع هدفية التنوع في الخلق والوجود...

إن الإنسان،بما هو إنسان له مشروعية وجود،تأتي في سياق رؤية قرآنية متكاملة عما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من كرامة وتعارف وتقوى في تأدية الأمانة لكل إنسان ،وذلك من منطلق أن الله كرّم بني آدم،وهداهم في الفطرة والبرهان،وخاطبهم بالإنسانية،فكان لهم بذلك مشروعية الوجود،وحرية الإختيار،وصيرورة التحول معرفياً،لتكون لهم الهداية والرعاية وفق ما جاءتهم به النبوة في مسار تكاملي واحد يؤدي بهم الى الحق الذي لا اختلاف فيه.
 
فإذا ما تدبرنا جيداً في القرآن الكريم نلحظ تمام الحرية في قوله تعالى:"لا إكراه في الدين..."وهي الآية التي تمنح كل إنسان مشروعية وجوده الديني والمعرفي،ولكنها لا تمنح الحق لأحد كي يفرض ما يزعمه من حق لنفسه على الآخرين،لأن ذلك مما يتعارض مع قوله تعالى:"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً".

ومن هنا نرى، أن كل سلوك،أو تصرف لفرض الحق من شأنه أن يؤدي إلى مصادرة مشروعية الحق الممنوحة لكل مخلوق!وهذا ما فعلته أمم كثيرة متدينة، وغير متدينة،فيما خاضته من حروب للإكراه في الدين،أو للاستبداد بالدين والسياسة.!إن حقيقة الإنسانية تتقوّم بهذا المبدأ التشريعي الإلهي الذي ترك للناس حرية أن يختاروا وفق رؤية تعارفية لها وحدها أن تفرض حق التحول الديني والمعرفي من قناعة الى أخرى.

وانطلاقاً من ذلك،نرى أن كل من قال بنسخ هذه الآية من العلماء،لا إكراه في الدين"هو بشكل ،أو بآخر يجحد حق البشر في الحرية والتعارف أولاً،وفي مشروعية الوجود ثانياً،ليفوز وحده بحق الوجود في الدين والدنيا على نحو ما يفعل أهل التطرف والغلو الديني! وتكون النتيجة الاعتداء على حق الله تعالى في الخلق والاختيار والمحاسبة،هذا فضلاً عما يؤدي إليه القول بالنسخ من انعدام لحالة التقوى في أداء الأمانة، وفي العلاقات بين البشر،وفي العبادة والسلوك أيضاً!؟

إن القرآن الكريم فيما انطوى عليه من مبادئ تشريعية عامة يدعو إلى أن تكون الحرية والاختيار  هما أساس كل كدح باتجاه التكامل الديني والمعرفي،ولو لم يكن الأمر كذلك ،لما رأينا القرآن ينص صراحة على ضرورة الدفع لحماية مشروعية الوجود لكل رؤية دينية ومعرفية،كما قال تعالى:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيراً."فهذه الأماكن العبادية كلها هي موضع عناية الله تعالى ما يحتم الدفع لحمايتها والقيام بحق رعايتها، لكونها تمثل مشروعية في واقع التحول الديني للناس،وإن لم تستوِ جميعاً على حد حقانية الوجود،فهذا أمر متروك لرب الناس،وليس لأحد منهم أن يحجب هذه المشروعية لمجرد أنه يرى لدينه،  أو لرؤيته هذا الحق!
 
فالقرآن يأتي على هذه الأماكن العبادية في سياق واحد ،ليؤكد على مشروعيتها في طريق التكامل،فاتحاً الأفق أمامها لكي تتحول في ذات نفسها باتجاه حق الوجود، الذي هو حق واحد وسبيل واحد لا يتعدد، كما قال تعالى:وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله."فإذا لم يستو البشر على حقانيه الوجود من خلال التعارف وأداء الأمانات إلى أهلها ،فإن الحق يبقى لله وحده في الهداية والمحاسبة ،وليس لأحد أن يحاسب أحداً وإلا انتفت مشروعية الوجود عمن يرى لنفسه حق الوجود في الدين والدنيا!!والسلام.

بقلم أ.د. فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية في لبنان

أخبار ذات صلة
captcha