ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ لِغَيرِهِ".
مِمّا طُبِع البشر عليه أنهم ينظرون إلى القوي القادر المُستغني نظرة تقدير واحترام، وتعظيم وإجلال، ويحبون أن يتقربوا إليه ويتعاملوا معه، وأن تكون لهم عنده حظوة ومكانة، ويجدون فيه مثلا أعلى يحذون حِذوه، ويقلدونه في الكثير من عاداته، ويتلقّون أفكاره وآراءه وقِيَمه بالإكبار والتعظيم والتسليم.
في المقابل تجدهم ينفرون من الضعيف العاجز، والمأزوم البائس، ومن يتخبَّط في المشاكل من كل جهة ولا يحسن الخروج منها، وإنهم لينظرون إليه باستخفاف، وقد يحتقرونه، لا يعبؤون برأيه، ولا بقوله، ولايؤيدون له موقفاً، ولا يرون له فضلا، ويفرّون منه كي لا يضطرهم إلى حمل عبء أزماته ومشاكله وعَوزه وفقره.
لذلك يُكرَه شرعاً أن يُظهر المرء ضُرَّه وعجزه ومعاناته ومشاكله وابتلاءاته للآخرين لأن ذلك مدعاة لِذُلِّهِ وهَوانه بين أيديهم، وقد جاء في الروايات الشريفة عَنْ مُفَضَّلِ بنِ قَيسِ بنِ رُمَّانَةَ، قَال دخلت على أَبِي عبد اللَّه الصادق (ع)، فذكرتُ لَهُ بَعضَ حَالِي .
فَقَالَ: "يَا جَارِيَةُ، هَاتِ ذَلِكَ الْكِيسَ، هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَصَلَنِي بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، فَخُذْهَا وَتَفَرَّجْ بِهَا. قَالَ: فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا هَذَا دَهْرِي (أي ليس هذا ما أهتم به وأريده) وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِي. قَالَ: فَقَالَ: إِنِّي سَأَفْعَلُ، وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تُخْبِرَ النَّاسَ بِكُلِّ حَالِكَ فَتَهُونَ عَلَيْهِمْ".
إِنَّ كَشْفَ المَرء عن ضُرِّه ومشاكله وما يعاني منه للآخرين يؤدي لامتهانه من قبلهم، وهَوانه عليهم، لأنهم عندما يطلعون على حاله، ويعرفون ما كان خافياً عنهم تتبدل نظرتهم إليه، فإذا كانوا ينظرون إليه بالتعظيم ويرفعونه إلى مكانة اجتماعية راقية، فإنهم بعد اطلاعهم على حاله يجعلونه في درجة أدنى، ومنزلة أقل، وقد يدعوهم ذلك إلى الاستهانة بأمره، والاستعلاء عليه، والتَّشَفّي منه، خصوصاً إذا كانوا حاقدين عليه وينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليه، ولذلك قيل: لا تشكوَنّ إلى أحد، فإنّه إن كان عدوّاً سَرّه، وإن كان صديقاً ساءَه، وليست مَسرّة العدوّ ولا مساءة الصديق بمحمودة.
ولهذا تجد بعض الأشخاص يبلغون من القوة والثبات أنهم لا يَشْكون ضُرَّهم إلى أحد، قريباً كان أم بعيداً، رغم أن الأزمات تحيط بهم من كل ناحية، والمشاكل تهجم عليهم من كل صوب، لأن الشكوى للناس لا جدوى منها، فإنها لا تدفع عنهم ضراً، ولا تجلب إليهم نَفعاً.
إن أولياء الله يشكون بثَّهم وحزنهم ومشاكلهم إلى الله الواحد الأحد، فهو وحده القادر على إخراجهم من أزماتهم، وهو وحده الذي يملك أسباب السماوات والأرض فيسبب لهم الأسباب، ويهيئ لهم السُّبُل، ويهديهم إلى ما يخرجهم منها، ويحنِّنُ القلوب الطيِّبة عليهم.
فهذا النبي يعقوب عليه وعلى نبينا محمد صلوات الله وسلامه لم يَشْكُ لأحد ما أَلَمَّ به بل: "قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" ﴿يوسف/86﴾.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: