رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "رُبَّ مُتَنَسِّكٍ لا دينَ لَهُ".
ما أكثر المُتزهِّدين المُتَنَسِّكين المنقطعين إلى العبادة والذكر، وما أقل المتدينين الملتزمين بأحكام الشريعة وآدابها.
إن العبادة مطلوبة بلا شك، وعلى المرء أن يكون في جميع أحواله عابداً لله تعالى متقرباً إليه بكل عمل يعمله، لكنها لا تؤتي أكلها إلا إذا انضم إليها الالتزام بمقررات الشريعة الغراء، فعندئذ تصنع إنسانا كاملاً، أما إذا اقتصر المرء على العبادات ولم يلتزم بأوامر الشريعة ونواهيها فهو كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "الْمُتَعَبِّدُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَحِمَارِ الطَّاحُونَةِ يَدُورُ وَلَا يَبْرَحُ".
أي لا يتقدم خطوة إلى الأمام بل يظلُّ يدور حول نفسه وفي المكان ذاته، والمفروض أن تتقدم به عباداته وأذكاره وترتقي به إلى مصاف الإنسانية الكاملة، ولا يكون ذلك إلا إذا اصطبغت حياته كلها بصبغة الإيمان، واتسقت أعماله ومواقفه مع الشريعة. وهذا بدوره يتطلب فهماً كاملاً للدين واستيعاباً شاملا لمنظوماته العقدية والقانونية والأخلاقية.
إن معيار التدين ليس كثرة الصلاة والصيام والحج والزكاة والزيارة وإقامة الشعائر والاهتمام بها، ورغم أن هذه مطلوبة كلها لما لها من آثار وبركاته فردية واجتماعية، غير أنها ليست مطلوبة بذاتها إنما هي مطلوبة لآثارها، فإذا لم تؤثر في صناعة شخصية مؤمنة ملتزمة عاملة فستكون (طقوسا) وحسب، وبكلمة أخرى سيكون هذا التدين فارغاً لا أثر له، ولا يلامس قلب الإنسان ولا يُغَيِّر فيه شيئاً، أو تديناً انتقائياً ينتقي المرء ما يستهويه من الدين ويترك ما يخالف أهواءه وميوله وما يحد من غرائزه.
ما تقدم من قول لا ينطلق من فراغ، بل ينطلق من تجارب إنسانية طويلة مع التدين، إنك ترى الكثير من الناس يهتمّون ببعض العبادات وفي الوقت عينه لا يلتزمون أوامر الدين، قد ترى شخصاً عابداً متنسكاّ صائماً نهاره قائماً ليله لكنه لا يعترف لغيره بالحق، ولا يعطي الحق، ولا يساند الحق، وقد تراه تالياً القرآن صبحاً ومساءً وما بينهما لكنه يقف في جبهة الباطل ضد جبهة الحق، إننا نرى اليوم شباباً يُصلون ولكنهم يقامرون، ويصومون لكنهم يأكلون الربا، ويحجون ولكنهم لا يجتنبون الغيبة، ونرى نساء يؤدين العبادات المفروضة ويحرصن على الذكر ويذهبن إلى الحج مرة بل مرات، ويشاركن في زيارة الأربعين مشياً على الأقدام ولكنهن لا يلتزمن بالستر الشرعي، ويخرجن سافرات متبرجات، فما قيمة هذا التدين؟ وما قيمة الحرص على أداء بعض الشعائر مع عدم الالتزام بمقررات الشريعة الواجبة والتي لا عذر للمرء في عدم الالتزام بها؟ وما قيمة بعض المظاهر الدينية إن كان المَرء يهتَمُّ بقيَم لا يرتضيها الدين، بل تتناقض مع الدين كما هو حال الكثير في أيامنا هذه، إن هذا التدين فارغ من المضمون الديني، الشكل شكل ديني والمضمون ليس دينياً.
وبأسف أقول: إننا اليوم نشهد مظاهر دينية كثيرة لكنها غير مقترنة بالالتزام بالأحكام الشرعية. مع العلم أن الالتزام بالأحكام الشرعية هو معيار الإيمان، لأن الإيمانَ ما وَقَرَ في القَلْبِ وصَدَّقْتْهُ الأعمالُ كما رُوِيَ عن رسول الله (ص).
ما سبق ليس دعوة لهؤلاء أن يتركوا العبادة، لا، إنما هو دعوة إلى أن تقترن عبادتهم بالالتزام بأوامر الدين وتكاليفه، والاصطباغ بصبغته، ليكون الدين منهجاً لعموم أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم وخياراتهم في الحياة، وتكون حياتهم كلها تجسيداً للدين وقِيَمه.
هذا هو الفهم الحق للدين وإذا لم يُفهَم الدين بصورة صحيحة، ستكون العبادات التي يؤديها المرء خالية من روح التدين وحقيقته، وإذا كان الدين طقوسيا فحسب ففي ذلك إساءة للدين، لأن الدين يهدف إلى إدارة حياة الإنسان وتنظيم علاقاته مع الله ومع نفسه ومع الإنسان ومع الطبيعة، كما يهدف إلى رعايته مَعنويا ومادياً، وإذا كان التدين تَنَسُّكاً وحسب ففي ذلك عزل للمتدين عن ساحة الحياة رغم أن المطلوب من المتدين أن يصنع الحياة ويُعمر الأرض ويستثمر خيراتها، ولو كان التدين زهداً بالمعنى السلبي الذي يعرفه الناس للزم من ذلك أن تتعطل الحياة الإنسانية، ونحن نعلم الأنبياء والرسل والأولياء سلام الله عليهم جميعا كانوا أزهد الناس لكنهم كانوا صُنَّاع حياة، التزاما بالأمر الإلهي، وكانوا أعبد الناس بذلك لأن أعبد الناس من أطاع الله فيما أمر وانتهى عما نهى عنه.
بقلم الکاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي