ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ".
لا ريب في أن الله تعالى خلق الناس متساويين فيما يمنحهم من فرص وإمكانات وقابليات، فكلٌّ منهم له قابلياته وطاقاته وإمكانياته التي قد يشترك فيها مع الآخرين وقد يمتاز بها أو بعضها عنهم، فهم متساوين من حيث تمتعهم بالقابليات ولكنهم متفاوتين في نوعها وحجمها، فواحد لديه قابلية البحث العلمي، وثانٍ لديه قابلية الهندسة، وثالث لديه قابلية الطب، ورابع لديه قابلية الفَنِّ، وخامس لديه قابلية الزراعة، وسادس لديه قابلية الخياطة، وسابع لديه قابلية التعليم والتربية، وثامن لديه قابلية التجارة، وتاسع لديه قابلية القيادة، وهكذا في جميع القابليات وعلى مختلف الصُّعُد، والسِّرُّ في ذلك الضرورات الاجتماعية التي تقتضي ذلك التَّنوع والتعدُّد، ما يؤدي إلى ثرائها، من جهة، وحصول كل فرد من أفراد المجتمع على حاجاته المختلفة من أفراد آخرين فهذا يخدم ذاك، وهذان يخدمان ثالث، والثلاثة يخدمان الرابع والكل يكون في خدمة الجميع.
إلا أننا نلاحظ أن بعض الأفراد رغم وجود قابليات مُهِمَّة لديهم يفشلون في تحقيق أهدافهم ونيل مطالبهم، والوصول إلى الغايات التي يرومون الوصول إليها، فما الذي يجعل البعض يفشل في وقت ينجح الآخرون؟
لا شكَّ في أن لذلك أسباباً عديدة وكلها وجيهة وتتطلَّب بحثاً مُعَمَّقاً لاتتسع لها هذه المقالة المحكومة بالإيجاز. ولاشك في أن الله تعالى يمنح البعض من الناس مزيداً من اللطف ومزيداً من الرعاية، ولكن ذلك مشروط بأن يُفَعِّلَ المَرءُ طاقاته ويجهد في استثمارها بطريقة مُثلى، فهذا يرعاه الله ويزيده ويمدُّه بالتوفيق والتسديد، وقد قال تعالى: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ" ﴿40/ النجم﴾.
وقال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"﴿69/ العنكبوت﴾. أما ذاك الذي لا يُفَعِّلُ طاقاته ولايستثمر قابلياته الاستثمار الأمثل ولايُجيد عمله ولايُتقنه، ولا يكون ذا هِمَّة عالية، فمصيره الفشل والندم بلا شك، فمثل هذه الشخص مثل من يملك أرضاً في باطنها كنز لكنه غافل عنه، وإن وجده لا يعرف كيف يستثمره، وإن استثمره استثمره بشكل خاطئ.
والحق أن للناجح من الناس ميزات تميُّزه عن سواه ومن أهمها:
أولاً: اكتشاف طاقاته وقدراته، وذلك يتم من طُرُق عديدة فإما يكتشفها بخوض غمار التجارب، والأقبال على العمل، أو بالتأمُّل في نفسه، أو بإرشاد من ناصح خبير.
ثانياً: تفعيل طاقاته، وتنشيطها، وتنميتها، وتطوير مهاراته، واستثمارها بطريقة مُثلَى.
ثالثاً: الثقة بنفسه، إذ لا فائدة من وجود القابليات مع انعدام ثقة الشخص بنفسه.
رابعاً: اقتناص واستغلال الفرص المتاحة، بخلاف الفاشل الذي تأتيه فُرَصٌ كثيرة لكنه يتجاهلها، وينام عنها.
و"الفُرَصُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ" كما يقول أمير المؤمنين (ع)، إنها أشبه ما تكون بغيمة ممطرة تَمُرّ فوق الأرض فتمطر على جزء منها، فما كان تحتها استفاد من مطرها، وما كان خارجاً عن خط سيرها ازداد عطشا فوق عطشه.
خامساً: الإقدام والجرأة، فالنجاح مدين للإقدام والجرأة، وهذه ميزة مهمة يمتاز بها الناجح عن الفاشل، فالناجح هو من يُقدم على الفعل ويتخذ القرار ولايهاب المُخاطَرة، ولا أقصد بذلك التَّهَوُّر فهو مذموم بلا شك، بل يُفَكِّر في الأمر جيداً ويأخذ وقته الكافي لذلك، ويتدَبَّر في عواقبه، ثم يبادر إلى الفعل دون أن يتملكه الخوف من الفشل، أو يخشى الإقدام على ما يراه في نافعاً له.
أما الفاشل فهو الذي يخاف من الإقدام، ويخشى وقوع الخسارة ولو كانت طبيعية أو في الإمكان دفع أثمانها، فتراه يتهيَّب الإقدام، ومثل هذا يبقى مكانه لا يتقدم خطوة، بل إن تداعيات خوفه من الفشل أخطر بكثير من الفشل نفسه، والحق أن من لا يفشل لا ينجح، لأن الفشل غالبا ما يكون مُنَبِّهاً للإنسان، وموقظاً لقابلياته.
هنا يأتي كلام الإمام أمير المؤمنين (ع): "إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ"*. فكل أمرٍ نهاب الإقدام عليه ينبغي أن نقدم عليه، لأننا إن بقينا أسرى مهابته وخوفه سيقعدنا ذلك عن الفعل، وينزع منا روح المبادرة، فينجح الآخرون ونفشل نحن.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي