ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "أَهْنَأُ العَيْشِ إطِّراحُ التَّكَلُّفِ".
كلنا يطلب العيش الهَنيء والحياة الطيبة السعيدة، فهذه رغبة بشرية لا نقاش فيها، فكل كدح يكدحه الإنسان وكل جهد يبذله بل كل ما يعانيه ويكابده ليس له إلا غاية واحدة، أن يعيش حياة طيبة وادعة مطمئنة.
لكن السؤال المطروح: كيف لنا أن نصل إلى تلك الغاية المنشودة؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها الحياة الطيبة والعيش الهنيء؟
لقد أوضح لنا الإسلام على لسان النبي (ص) والأئمة (ع) الطريق إلى ذلك، وأرشدونا إلى ما ينبغي أن نفعله أو نتخلَّق به من أفعال وصفات كي نبلغ تلك الغاية.
وأنا ذاكر لك قارئي الكريم واحداً من تلك السبل وهو: أن نتجنَّب التَّكَلُّف، والتكلف هو كل عمل يوقعنا في المصاعب ويجشمنا المَشاق والمتاعب، وله مظاهر عديدة، فكم نراكم على أنفسنا من الديون لنُرَفِّه عن أنفسنا، ترانا نقترض لنشتري بيتاً أجمل من بيتنا الذي نسكنه وقد كان يكفينا ويؤينا، ونقترض لنستبدل الأثاث القديم بأثاث جديد مسايرة للجيران أو مباهاة أمام الأصدقاء، ونقترض المال لنشتري سيارة أحدث وقد كانت السيارة القديمة تكفينا، ونقترض المال لنشتري الموبايل الأحدث مع صلاحية القديم للعمل، ونتكلف في مآدبنا وأعراسنا ومناسباتنا الحزينة والسعيدة، ثم بعد ذلك تضيق بنا الدنيا بما رحبت ، يطالبنا هذا ويطالبنا ذاك ونحن عاجزون عن الوفاء بالدين فتنقلب حياتنا إلى قلق وتوتر ويأس.
لقد صار التَّكَلُّف واحدة من سمات عصرنا هذا، فالناس إلا ما ندر يسعون للعيش بمستوى أكبر من إمكانياتهم المادية وقدراتهم المالية، ويتفاخرون بحيازتهم أثمن الأشياء وأغلاها، ويتسابقون على شراء النُّسَخ الجديدة من كل شيء، ويقفون طوابير لساعات يطلبون ذلك يطلبون هذا المُنتَج أو ذاك، تراهم ينفقون على حفلاتهم لساعتين أو ثلاثة ما يكفيهم لسنتين، وينفقون على الزينة ما يكفي لسد حاجة أسرة كبيرة بل لترفيهها، ويتفاخرون بلبس الثياب وحمل المحافظ التي تنتجها الشركات صاحبة العلامة التجارية المشهورة ولو بلغت الكلفة ما بلغت، وقد ساهم في ذلك حملات دعائية وإعلانية ضخمة تنفق عليها مليارات الدولارات، والتي تسلب من المرء توازنه العقلي والفكري فيرى كرامته ومكانته الاجتماعية رهن حصوله على ذلك أو لباسه أو ما حمل في يده.
ولا يقتصر التكلُّف على الجانب المادي، فما أكثر المتكلفين معنوياً وهم أولئك الذين يمارسون سلوكيات لا يرتضيها الدين فيثقلون على أنفسهم في العبادات، وقد يبتدعون جديدا في هذا المجال، ومنهم من يتعالى على الناس متوهِّماً أنه الأفضل والأرقى، ومعطيا لهم انطباعا غير صحيح عن نفسه، ولكنه لا يلبث طويلا حتى ينفضح أمره ويظهر للناس أنه يتقمص شخصية غير شخصيته الحقيقية، فينفر الناس منه وينفضون عنه.
التَّكَلُّف خروج عن المعتاد، ومبالغة في تطلُّب ما يشقُّ ويصعب وما يؤدّي بالإنسان إلى الوقوع في العسر والحرج والضيق، وهو تصنُّع، وتبَجُّح، والظهور بمظهر لا يعكس الواقع الحقيقي للإنسان، فليس كل من يبذخ يبذخ من ثَراء، ولا كل من (يلبس) العلامات التجارية المشهورة تسمح له قدراته المالية بذلك، وإنما هو تَكَلُّفٌ. ولكنه هنا يضر نفسه دون أن ينتفع بشيء، بل إن ذلك يدل على فقدانه الثقة في نفسه، فيعوِّضُ ذلك بالتكلُّف.
بما تقدم يتبين لنا خطورة التكلُّف وآثاره السلبية على حياة الإنسان وعيشه، إنه ليتكلف ليهنأ فإذا به يحصد الخيبة والخسران والقلق، فالتكلف يكدر صفو الحياة ويشحنها بالمتاعب والآلام. ولهذا يقول أمير المؤمنين (ع): "أَهْنَأُ العَيْشِ إطِّراحُ التَّكَلُّفِ".
بقلم الباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
تابعونا على شبكات التواصل الاجتماعي: